تذكر الدار الآخرة
صفحة 1 من اصل 1
تذكر الدار الآخرة
الحمد لله
هناك الكثير من الحقائق الإيمانية، والتي يعتقدها المسلم، ويعلم علماً يقينياً أنه سيمر بها، لكنه مع زحمة الحياة، والتناسي والانشغالات يغفل عن هذه الحقائق -وإن كان يعتقد بها-، وهذه الغفلة يجب أن لا تطول، بل لابد بين كل آونة وأخرى أن يقف مع نفسه، ويتذكر ويتأمل، تلك اللحظات التي سوف يمر بها، ويفكر بعد ذلك بحاله ومآله، هل سيكون من الذين يقال في حقهم: {يُثَبِّتُ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ}؟ [(27) سورة إبراهيم] أم يكون من الذين قال الله تعالى فيهم: {وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلآئِكَةُ بَاسِطُواْ أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُواْ أَنفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ}؟[(93) سورة الأنعام].
إن القبر أول منـزل من منازل الآخرة، القبر ذلك المكان المظلم الضيق، الذي لابد لكل منا إلا وسوف يلجه، ويسكن فيه ما شاء الله له أن يسكن، ثم يذهب بعد ذلك إلى مستقره، فإما إلى جنة وإما إلى نار، فكِّر يا أخي، في القبر وضمته وضيقه وظلمته.
الموت في كل يوم ينشر الكفنا *** ونحن في غفلة عما يراد بنا
لا تطمئن إلى الدنيا وبهجتها *** وإن توشحت من أثوابها الحسنا
أين الأحبة والجيران ما فعلوا *** أين الذين همو كانوا لنا سكنا
سقاهم الموت كأساً غير صافية *** فصيرتهم لأطباق الثرى رهنا
القبر له هول عظيم، وإن فظاعته لشدية، قال -عليه الصلاة والسلام-: ((ما رأيت منظراً قط إلا القبر أفظع منه)).
القبر له ظلمة شديدة، قال -عليه الصلاة والسلام- ذلك، عندما ماتت المرأة التي كانت تَقُمّ المسجد في عهد الرسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ففقدها الرسول الله -صلى الله عليه وسلم- ، فأخبروه أنها ماتت من الليل، ودفنوها، وكرهوا إيقاظه، فطلب من أصحابه أن يدلوه على قبرها، فجاء إلى قبرها، فصلى عليها ثم قال:((إن هذه القبور مليئة ظلمة على أهلها، وإن الله -عز وجل- منورها لهم بصلاتي عليهم)) [متفق عليه].
للقبر ضمة، لا ينجو منها أحد كبيراً كان أو صغيرا، صالحاً كان أو ظالماً، ولو نجى منها أحد، لنجى منها سعد بن معاذ، كما قال -عليه الصلاة والسلام- ذلك، الذي تحرك لموته عرش الرحمن، وفتحت له أبواب السماء، وشهده سبعون ألفاً من الملائكة -رضي الله عنه-.
فيا من تقدمون على قبوركم، وليس بينكم وبين ذلك إلا مفارقة الروح للبدن، اعلموا أن للقبر فتنة، وإن هذه الأمة تفتن في قبورها، كما أخبر بذلك الصادق المصدوق، -صلى الله عليه وسلم- ثبت فيما صح عنه أنه إذا قبر الميت ((أتاه ملكان أسودان أزرقان، يقال لأحدهما: المنكر، وللآخر: النكير، فيقولان: ما كنت تقول في هذا الرجل؟ فيقول: ما كان يقول، هو عبد الله ورسوله، أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً عبده ورسوله،... وإن كان منافقا قال: سمعت الناس يقولون قولاً، فقلت مثله لا أدري)).
تفكروا في الموت وسكرته، وصعوبة كأسه ومرارته، فيا للموت من وعد ما أصدقه، ومن حاكم ما أعدله، كفى بالموت مفزعاً للقلوب، ومبكياً للعيون، ومفرقاً للجماعات، وهادماً للذات، وقاطعاً للأمنيات، هل فكرت يا عبد الله في يوم مصرعك، وانتقالك من موضعك إلى قبرك، إذا نُقلت من سعة إلى ضيق، وخانك الصاحب والرفيق، وهجرك الأخ والصديق، وأُخذت من فراشك وغطائك إلى غرر، وغطوك من بعد لين لحافها بتراب ومدر؟.
فيا جامع المال، والمجتهد في البنيان، ليس لك من مالك إلا الأكفان، بل هي للخراب والذهاب، وجسمك للتراب والمتاب، فأين الذي جمعته من المال؟، فهل أنقذك من الأهوال؟، كلا! بل تركته لمن لا يحمَدُك، وقدِمت بأوزارك على من لا يعذُرُك.
ألا تبكون وتنوحون على أنفسكم باقي حياتكم، من كان القبر طالبه، والقبر بيته، والتراب فراشه، والدود أنيسه، وهو مع هذا ينتظر الفزع الأكبر، فكيف يكون حاله؟.
مثل لنفسك يا عبد الله، وقد حلت بك السكرات، ونزل بك الأنين والغمرات، فمن قائل يقول: إن فلاناً قد أوصى، وماله قد أحصى، ومن قائل يقول: إن فلاناً ثقل لسانه، فلا يعرف جيرانه، ولا يكلم إخوانه، فكأني أنظر إليك تسمع الخطاب، ولا تقدر على رد الجواب، فتخيل نفسك يا عبد الله، إذا أُخذت لفراشك، إلى لوح مُغسّلك، وألبست الأكفان، وأوحش منك الأهل والجيران، وبكت عليك الأصحاب والإخوان، وقال الغاسل: أين زوجة فلان تحلله؟ وأين اليتامى؟ ترككم أبوكم، فما ترونه بعد هذا اليوم أبداً.
يا غافلاً عن هذه الأحوال، يا غافلاً عن قبرك والمآل، إلى كم هذه الغفلة أتحسب أن الأمر بسيط، وتزعم أنه يسير، وتظن أن سينفعك حالك، إذا آن ارتحالك أو ينقذك مالك، حين تُوبِقُك أعمالك، أو يفنى عنك ندمك، إذا زلت بك قدمك، أو يعطف عليك عشيرتك، كلا والله ساء ما تتوهم، ولابد أن ستعلم.
لا بالكفاف تقنع، ولا من الحرام تشبع، ولا للعظات تسمع، ولا بالوعيد ترتدع، دأبك أن تتقلب مع الأهواء، وتخبط خبط عشواء، يعجبك التكاثر بما لديك، ولا تذكر ما بين يديك، أتزعم أن ستترك سدى؟، وأن لا تحاسب غدا؟، أم تحسب أن الموت يقبل الرشا؟ كلا، لن يُدفع عنك الموت بمال ولا بنين، ولا ينفع أهل القبول إلا العمل المبرور، فطوبى لمن سمع ووعى، وحقق ما ادعى، ونهى النفس عن الهوى، وعلم أن الفائز من ارعوى، {وَأَن لَّيْسَ لِلْإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَى * وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى * ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاء الْأَوْفَى * وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنتَهَى} [(39-42) سورة النجم]، فانتبه من هذه الرقدة، واجعل العمل الصالح لك عدة، ولا تتمنَّ منازل الأبرار، وأنت مقيم على الأوزار.
إن في بعض الكلام تكرار، وغالبه معروف وليس بجديد، لكن نحن بحاجة إليه، وهذا من أجل أن يتنبه الإنسان ويحاسب نفسه، فمن غفل عن نفسه تصرمت أوقاته، ثم اشتدت عليه حسراته، وأي حسرة على العبد أعظم من أن يكون عمره عليه حجة؟!، وتقوده أيامه إلى المزيد في الردى والشقوة.
إن الزمان وتقلباته أنصح المؤدبين، وإن الدهر بقوارعه أفصح المتكلمين، فانتبهوا بإيقاظه واعتبروا بألفاظه.
من حاسب نفسه في الدنيا خف في القيامة حسابه، وحسن في الآخرة منقلبه، ومن أهمل المحاسبة دامت حسرته وساء مصيره. وما كان شقاء الأشقياء إلا لأنهم كانوا لا يرجون حسابا، وقعوا ضحايا خداع أنفسهم وأحابيل شياطينهم، وافتهم المنايا وهم في غمرة ساهون.
في الشباب من غره شبابه فنسى فقدان الأقران، وغفل عن سرعة المفاجآت، وتعلق بالآمال والأماني، وما هي والله إلا أوهام الكسالى، وأفكار اللاهين، وما الاعتماد عليها إلا بضائع الحمقى، ورؤوس أموال المفاليس، والتمني والتسويف إضاعة للحاضر والمستقبل.
وفي أهل الدنيا من صرف أمواله في الشهوات والمحرمات. وأشد هؤلاء من كسب مالاً، فأدخله النار، وورثه من بعده قوم صالحون عملوا فيه بطاعة الله، فأدخلهم الجنة، ليس أعظم حمقاً ممن ضيع ماله، وأصلح مال غيره، وقد علم أن ماله ما قدم، ومال غيره ما خلف.
لقد وهن العظم، وابيض الشعر، ورحل الأقران، ولم يبق إلا الرحيل، عجيب حال هذا الغافل، يوقن بالموت ثم ينساه!، ويتحقق من الضرر ثم يغشاه!، يخشى الناس والله أحق أن يخشاه!، يغتر بالصحة وينسى السقم!، ويفرح بالعافية ولا يتذكر الألم!، يزهو بالشباب ويغفل عن الهرم!، يهتم بالعلم ولا يكترث بالعمل، يحرص على العاجل ولا يفكر في خسران الآجل!، يطول عمره ويزداد ذنبه!، يبيض شعره ويسود قلبه!، قلوب مريضة عز شفاؤها، وعيون تكحلت بالحرام فقل بكاؤها، وجوارح غرقت في الشهوات فحق عزاؤها.
ألم يأنِ لأهل الغفلة أن يدركوا حقيقة هذه الدار؟!، أما علموا أن حياتها عناء؟، ونعيمها ابتلاء؟، جديدها يبلى، وملكها يفنى، وُدّها ينقطع، وخيرها ينتزع، المتعلقون بها على وجل إما في نعم زائلة، أو بلايا نازلة، أو منايا قاضية،{يَا قَوْمِ إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ} [(39) سورة غافر]العمر قصير، والخطر المحدق كبير، والمرء بين حالين: حال قد مضى لا يدري ما الله صانع فيه، وأجل قد بقي لا يدري ما الله قاضٍ فيه.
إذا كان الأمر كذلك، فعلى صاحب البصر النافذ أن يتزود من نفسه لنفسه، ومن حياته لموته، ومن شبابه لهرمه، ومن صحته لمرضه، فما بعد الموت من مستعتب، ولا بعد الدنيا سوى الجنة أو النار.
ومن أصلح ما بينه وبين ربه كفاه ما بينه وبين الناس، من صدق في سريرته حسنت علانيته، ومن عمل لآخرته كفاه الله أمر دنياه.
والمحاسبة الصادقة: ما أورثت عملاً، فعليك يا عبد الله، أن تستدرك ما فات بما بقي فتعيش ساعتك ويومك، ولا تشتغل بالندم والتحسر من غير عمل، واعلم أن من أصلح ما بقي غُفر له ما مضى، ومن أساء فيما بقي أُخذ بما مضى وبما بقي، والموت يأتيك بغتة، فأعطِ كل لحظة حقها، وكل نفس قيمتها، فالأيام مطايا والأنفاس خطوات، والصالحات هي رؤوس الأموال، والربح جنات عدْن، والخسارة نار تلظى، {لَا يَصْلَاهَا إِلَّا الْأَشْقَى * الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى} [(15-16) سورة الليل]، وأنت حسيب نفسك.
كفى بالموت واعظا، فإنه لا يقرع بابا، ولا يهاب حجابا، لا يقبل بديلا، ولا يأخذ كفيلا، ولا يرحم صغيرا، ولا يوقر كبيرا.
يروى أنه لما احتضر أبو بكر الصديق -رضي الله عنه-، قالت عائشة:
لعمرك ما يغني الثراء عن الفتى *** إذا حشرجت يوماً وضاق بها الصدر
فقال: "ليس كذلك، ولكن قولي: {وَجَاءتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنتَ مِنْهُ تَحِيدُ}" [(19) سورة ق]، وقال عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- عند موته: "ويلي وويل أمي، إن لم يرحمني ربي"، ولما احتضر أبو هريرة -رضي الله عنه- بكى، فقيل له: وما يبكيك؟ فقال: "بُعد المفازة، وقلة الزاد، وعقبة كؤود، المهبط منها إلى الجنة أو إلى النار"، ولما احتضر عمر بن عبد العزيز قال: "إلهي أمرتني فلم أئتمر، وزجرتني فلم أنزجر، غير أني أقول لا إله إلا الله"، وقال المزني، دخلت على الشافعي في علته التي مات فيها، فقلت له: أبا عبد الله، كيف أصبحت؟ قال: "أصبحت من الدنيا راحلاً، ولإخواني مفارقا، وبكأس المنية شاربًا، وعلى الله واراداً، ولا أدري نفسي تصير إلى الجنة فأهنيها أم إلى النار فأعزيها". ثم بكى وقال:
ولما قسى قلبي وضاقت مذاهبي *** جعلت رجائي نحو عفوك سلما
تعاظمني ذنبي فلما قرنته *** بعفوك ربي كان عفوك أعظما
وما زلت ذا عفو عن الذنب سيدي *** تجود وتعفو منة وتكرما
ولولاك لم يغوَ بإبليس عابدٌ *** فكيف وقد أغوى صفيك آدما
إننا مقدمون على أمور عظيمة وأحداث هائلة يوم القيامة، ينبغي أن تكون منا على بالٍ دائماً وأن نستعد لها، وسيسبق ذلك أحداث سوف تغير أشياء كثيرة في هذا الكون فتنشق السماء، وتتناثر النجوم، وتتصادم الكواكب وتتفتت الأرض، وتغدو صعيداً جرزا، وتصبح الجبال كثيباً مهيلاً،{يَوْمَ تُبَدَّلُ الأَرْضُ غَيْرَ الأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ وَبَرَزُواْ للّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ} [(48) سورة إبراهيم]. ويكون هذا على أثر النفخة الأولى، ينفخها إسرافيل بأمر ربه، فيصعق كلُ من في السماوات ومن في الأرض إلا ما شاء الله، قال الله -عز وجل-: {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَمَن فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَن شَاء اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُم قِيَامٌ يَنظُرُونَ} [(68) سورة الزمر] وقال تعالى:{فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ وَاحِدَةٌ * وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً * فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ * وَانشَقَّتِ السَّمَاء فَهِيَ يَوْمَئِذٍ وَاهِيَةٌ}[(13-16) سورة الحاقة]. ثم يكون بعد ذلك النفخة الثانية، وقد أشار الله -عز وجل- إلى النفخة الأولى والثانية في قوله تعالى: {يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ * تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ} [(7) سورة النازعات]فالراجفة -كما يقول ابن عباس-: هي النفخة الأولى، والرادفة: هي الثانية، فتعود الحياة إلى الأجساد الميتة، وهذا هو يوم البعث، وهو إعادة الإنسان روحاً وجسداً كما كان في الدنيا، ثم يُخرِج الله الناسَ من الأجداث أحياء، فيقول الكفار والمنافقون حينئذٍ: {يَا وَيْلَنَا مَن بَعَثَنَا مِن مَّرْقَدِنَا}[(52) سورة يــس]ويقول المؤمنون: {هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ} [(52) سورة يــس]، ثم بعد ذلك يقوم الملائكة بحشر الخلائق إلى الموقف {يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ وَفْدًا * وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلَى جَهَنَّمَ وِرْدًا} [(85-86) سورة مريم]، والحشر هو سوق الناس جميعاً إلى الموقف، وهو المكان الذي يقفون فيه انتظاراً لفصل القضاء بينهم، فبعد بعث الناس يأمر الله ملائكته فتسوقهم إلى الموقف، وحالهم كما خلقوا أول مرة حفاة غير منتعلين، عراة غير مكتسين، غرلاً غير مختتنين، فقد صح عن عائشة -رضي الله عنها- فيما اتفق عليه الشيخان: أنها قالت: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: ((يحشر الناس يوم القيامة حفاة عراة غرلاً)) قلت: يا رسول الله، ينظر بعضهم إلى بعض؟ قال -صلى الله عليه وسلم-:((يا عائشة، الأمر أشد من أن ينظر بعضهم إلى بعض)).
وفي الموقف يصيب الخلائق كرب شديد، فقد روى المقداد بن الأسود عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: ((تدنى الشمس يوم القيامة من الخلق، حتى تكون منهم كمقدار ميل، فيكون الناس على قدر أعمالهم في العرق، فمنهم من يكون إلى كعبيه، ومنهم من يكون إلى ركبتيه، ومنهم من يكون إلى حقويه، ومنهم من يُلجمه العرق إلجاماً، وأشار -صلى الله عليه وسلم- بيده إلى فيه)) [رواه مسلم]. وفي أثناء ذلك يكون أناس تحت ظل العرش كما أخبر المصطفى -عليه الصلاة والسلام- فيما رواه البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث أبي هريرة وأبي سعيد -رضي الله عنهما- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: ((سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله: الإمام العادل، وشاب نشأ في عبادة الله، ورجل قلبه معلق في المساجد، ورجلان تحابا في الله اجتمعا عليه وتفرقا عليه، ورجل دعته امرأةٌ ذات منصب وجمال، فقال: إني أخاف الله، ورجل تصدق بصدقة، فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه، ورجل ذكر الله خالياً ففاضت عيناه)). فإذا اشتد الأمر بالناس، وعظم بهم الكرب في هذا الموقف العظيم استشفعوا إلى الله -عز وجل- بالرسل والأنبياء أن ينقذهم مما هم فيه، ويُعجل لهم فصل القضاء، وكل رسول يحيلهم على من بعده، حتى يأتوا نبينا محمداً -صلى الله عليه وسلم- ، فيشفع فيهم، وهذه هي الشفاعة العظمى الخاصة بنبينا محمد -صلى الله عليه وسلم- من بين سائر إخوانه من الأنبياء والمرسلين، -عليهم الصلاة والسلام-، وهي من المقام المحمود الذي وعد به الرسول -عليه الصلاة والسلام- في قوله تعالى: {وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَّكَ عَسَى أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَّحْمُودًا}[(79) سورة الإسراء]فينصرف الناس بعد ذلك إلى فصل القضاء، وعندها يجازى كلُ إنسان بما كسب في الحياة الدنيا من خير أو شر، قال تعالى: {مَن جَاء بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِّنْهَا وَمَن جَاء بِالسَّيِّئَةِ فَلَا يُجْزَى الَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئَاتِ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [(84) سورة القصص]وقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فيما يرويه عن ربه -عز وجل-: ((يا عبادي إنما هي أعمالكم أحصيها لكم، ثم أوفيكم إياها، فمن وجد خيراً فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه)) وهناك تنصب الموازين فتوزن بها أعمال العباد، خيرها وشرها، -وهو ميزان حقيقي له لسان وكفتان-، وهذا إظهار لعدل الله -عز وجل- قال تعالى: {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِن كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ}[(47) سورة الأنبياء]، وقال تعالى: {وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فَمَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُواْ أَنفُسَهُم بِمَا كَانُواْ بِآيَاتِنَا يِظْلِمُونَ} [(8-9) سورة الأعراف]، فتوضع الحسنات في كفة، والسيئات في كفة، فمن ثقل ميزان حسناته كان من المفلحين الفائزين، ومن ثقل ميزان سيئاته -والعياذ بالله- كان من الخائبين الخاسرين، ثم تنشر الدواوين بعد ذلك وهي صحائف الأعمال، {فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ * فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا * وَيَنقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُورًا * وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاء ظَهْرِهِ * فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُورًا * وَيَصْلَى سَعِيرًا} [(7-12) سورة الإنشقاق]{وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيهْ * وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيهْ}[(25-26) سورة الحاقة]، قال تعالى: {وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا} [(49) سورة الكهف]، ثم بعد ذلك يُعرض الناس على ربهم، وتقام عليهم الحجج، ويطلعون على أعمالهم، ويقرؤون صحفهم قال تعالى: {فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ * وَانشَقَّتِ السَّمَاء فَهِيَ يَوْمَئِذٍ وَاهِيَةٌ * وَالْمَلَكُ عَلَى أَرْجَائِهَا وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ * يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لَا تَخْفَى مِنكُمْ خَافِيَةٌ} [(15-18) سورة الحاقة].
فيجب على كل مسلم أن يؤمن بأن كل عبد يعرض على ربه، فيتولى -سبحانه وتعالى- حسابه بنفسه وبدون واسطة، عن عدي بن حاتم -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: ((ما منكم من أحد إلا سيكلمه الله يوم القيامة ليس بينه وبينه ترجمان، فينظر عن يمينه فلا يرى إلا ما قدم وينظر عن شماله فلا يرى إلا ما قدم وينظر أمامه فلا يرى إلا النار فاتقوا النار ولو بشق تمرة)). فإن كان من أهل النجاة وهو الذي يؤتى كتابه بيمينه، تجاوز الله عن ذنوبه ولم يناقشه الحساب، وأدخله الجنة، ولم يعذبه بالنار، -فنسأل الله -عز وجل- أن يجعلنا من هؤلاء-، وأما من كثرت معاصيه -والعياذ بالله-، وأوتي كتابه بشماله فذلك الذي يناقش الحساب، ويُسأل عن كل صغيرة وكبيرة، ويشهد على العباد جميع من يستشهدهم الله عليهم، فتشهد الأرض بما حدث على ظهرها، كما قال -عز وجل-: {إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا * وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقَالَهَا * وَقَالَ الْإِنسَانُ مَا لَهَا * يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا * بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا * يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتًا لِّيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ * فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ} [(1-8) سورة الزلزلة]. وقد ورد عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: "قرأ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- "{يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا} [(4) سورة الزلزلة]فقال: أتدرون ما أخبارها؟ قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: ((فإن أخبارها أن تشهد على كل عبد أو أمة بما عمل على ظهرها، أن تقول: عمل كذا وكذا يوم كذا وكذا قال: فهذه أخبارها)).
ومما يشهده الله -عز وجل- على عباده في ذلك اليوم أعضاء الإنسان: من الألسنة والأيدي والأرجل والجلود وغيرها، وقد أخبر الله -عز وجل- أن أعداء الله يتحاورون مع هذه الأعضاء قال تعالى: {وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْدَاء اللَّهِ إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ} {حَتَّى إِذَا مَا جَاؤُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدتُّمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ * وَمَا كُنتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلَا أَبْصَارُكُمْ وَلَا جُلُودُكُمْ وَلَكِن ظَنَنتُمْ أَنَّ اللَّهَ لَا يَعْلَمُ كَثِيرًا مِّمَّا تَعْمَلُونَ} [(19-22) سورة فصلت]. وبعد الحساب والعرض والميزان ينصرف الناس من الموقف؛ ليمروا فوق الصراط، -وهو الجسر المنصوب على جهنم- وجاء في وصفه أنه أدق من الشعرة وأحد من السيف، وكل إنسان سواء كان طريقه إلى الجنة أو النار -والعياذ بالله- لابد وأن يمر على الصراط، والمرور على الصراط عام لجميع الناس الأنبياء والصديقين والمؤمنين، ومن يحاسب ومن لا يحاسب، إلا الكفار.
ومن استقام على صراط الله -الذي هو دين الحق في الدنيا-، استقام على هذا الصراط في الآخرة.
وقد ورد في الأحاديث الصحيحة أن الناس يمرون عليه بقدر أعمالهم في الدنيا، فمنهم من يمر كانقضاض الكواكب، ومنهم من يمر كالريح ومنهم من يمر كالطرف، ومنهم من يرمل رملاً، فيمرون على قدر أعمالهم، حتى يمر المقل في العمل الصالح، تخّر يد وتعلق يد، وتخر رجل وتعلق أخرى.
وروى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث طويل لأبي هريرة -رضي الله عنه-، حتى يقول الرسول -صلى الله عليه وسلم- في آخر الحديث: ((ويضرب الصراط بين ظهري جهنم، فأكون أنا وأمتي أول من يجيز، ولا يتكلم يومئذٍ إلا الرسل ودعوى الرسل يومئذٍ: اللهم سلم سلم)).
إذا كان الرسل -وقد ضمنوا الجنة- يقولون على الصراط: اللهم سلم اللهم سلم، فماذا يقول غيرهم؟!. ماذا يقول ذلك الذي لم يأتمر بأوامر الله -عز وجل-؟! ولم ينتهِ عن نواهيه؟!، ماذا يقول ذلك المتهاون المتكاسل عن صلاته؟!. بل ماذا يقول النائم عن صلاة الفجر؟!، وماذا يقول المرابي؟!، وماذا يقول الظالم؟!، وماذا يقول وماذا يقول وماذا يقول!!، اللهم سلم، اللهم سلم.
والمرور على الصراط هو الورود المذكور في قوله تعالى: {وَإِن مِّنكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا} [(71) سورة مريم]، فإنه لا ينجو منه أحد، فإذا عبر المؤمنون الصراط، وقفوا على قنطرة بين الجنة والنار، فيُقتص من بعضهم لبعض، فإذا هذبوا أذن لهم في دخول الجنة.
فنسأل الله -عز وجل- بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن يجعلنا من أهل الجنة؛ إنه ولي ذلك والقادر عليه
fatoom- مشرفة
- عدد المساهمات : 1247
نقاط : 8481
السٌّمعَة : 9
تاريخ التسجيل : 11/02/2012
خاص للزوار
تردد1:
(0/0)
أسألة الزوار:
(50/50)
ddddddkkkkkkk:
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى