تفريغ شريط: فتاوى جدة (32): اللهو المباح واللهو المحرم {ج1}
صفحة 1 من اصل 1
تفريغ شريط: فتاوى جدة (32): اللهو المباح واللهو المحرم {ج1}
الشيخ: سأل سائل بالأمس القريب عن مسألة قد ابتُلِيَ بها أكثر المسلمين في كل بلاد الإسلام، فأحب أن يعرف حكم الله -تبارك وتعالى- فيها؛ ألا وهى: "اللعب بكرة القدم".
حيث صارت شهوة كل شاب نشأ في مجتمع فيه شيء مما يُسمَّى اليوم بالمدنية.
وجوابى على ذلك كما يأتى:
اللعب بالكرة لا يخرج عن أي لعبة أخرى يتعاطاها المسلم فهى داخلة في عموم قوله عليه الصَّلاة والسَّلام: ((كل لهو يلهو به ابن آدم باطل إلا ملاعبته لزوجه، ومداعبته لفرسه ورميه بقوسه، والسباحة)) .
لقد ذكر الَّنبي صلَّى الله عليه وسلَّم هذه اللعب والملاهي التى كان يلهو بها النَّاس يومئذ، فاستثناها من اللهو الباطل.
ويجب أن نتنبَّه هنا بمناسبة هذا الحديث لأمرين اثنين:
الأول: أنَّ الحديث -كما سمعتم- بلفظ: "باطلٌ"، وليس بلفظ: "محرَّمٌ".
والأمر الثَّاني: أننا إذا انتبهنا لهذا الفرق؛ فحينئذٍ نعلم أن هناك فرقًا فقهيًّا أيضًا، فإذا كان الحديث إنما ورد بلفظ: "باطل"؛ فلا يعني أنَّه بمعنى: محرم؛ لأنَّ الباطل هو أشبه ما يكون من حيث المعنى المراد منه هو: اللغو. أما المحرَّم فلفظ صريح في وجوب الابتعاد عنه.
إذا عرفت ذلك فحينئذ نستطيع أن نقول: أن كل لهو يلهو به الإنسان في أي زمان ومكان؛ فهو لغوٌ باطل لا أجر له، هذا إن نجا من الإثم.
والإثم قد يأتي من ذات النَّوع الذى يلعب به وقد يأتي مما يحيط بنوع اللعب الذى يلعب به؛ ولنضرب على ذلك مثلين اثنين؛ فالأمر كما قال تعالى: ﴿وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ﴾ أو يتذكرون :
المثلان هما: اللعب بالنَّرد واللعب بالشِّطرنْج.
فاللعب بالنَّرد منهيٌّ عنه بالنَّص ولذاته؛ فقد جاء وصحَّ عن النبيِّ صلَّى الله عليه وعلى آله وسلَّم أنه قال: ((مَنْ لَعِبَ بِالنَّرْدَشِيرِ فَكَأَنَّمَا غَمَسَ يَدَهُ فِي لَحْمِ خِنْزِيرٍ وَدَمِهِ)) ((مَنْ لَعِبَ بِالنَّرْدَشِيرِ فَكَأَنَّمَا غَمَسَ يَدَهُ فِي لَحْمِ خِنْزِيرٍ وَدَمِهِ))، والنص الآخر: ((مَنْ لَعِبَ بِالنَّرْدِ فَقَدْ عَصَى اللَّهَ وَرَسُولَهُ)).
فإذن لا يجوز اللعب بالنَّرد لذاته؛ لما فيه من هذا التَّرهيب الشَّديد: ((مَنْ لَعِبَ بِالنَّرْدَشِيرِ فَكَأَنَّمَا غَمَسَ يَدَهُ فِي لَحْمِ خِنْزِيرٍ وَدَمِهِ)). ومعلومٌ عند الجميع أن لحم الخنزير ودمه نجس نجاسة عيْنيَّة، ولا يجوز إذن اللعب بهذا النَّوع من الملاهي، وهذا هو المثال الأول.
أما المثال الثاني فكما ذكرت -آنفًا-: اللعب بالشطرنج.
لا يوجد هناك حديثٌ صحيحٌ في النَّهي عن اللعب بالشطرنج؛ وإذ الأمر كذلك فما حكمه؟
لا نستطيع أن نقول: إنَّه حرام؛ لأنه لم يرد فيه نص، ولا نستطيع أن نقول: إنَّه مباحٌ مطلقٌ؛ لأنه داخل في الحديث الأول وهو: ((كل لهو))، والمكني عنه باسم راويه وهو: "جابر بن عبد الله الأنصاري" ، فحديث جابر هذا فيه هذا العموم أن كل اللعب إنما هو باطل؛ فمن ذلك إذن: اللعب بالشطرنج فهو باطل.
هذا الباطل يجب أن ينظر إليه بالنسبة لما قد يحيط به من منكر يرفعه ويصفُّه في مصافِّ المحرَّمات، وإما أن يرفعه إلى مصافِّ المباحات.
فإذا كان اللعب بالشطرنج -كما هو الواقع اليوم- فيه بعض التَّماثيل مما يعرف بمثلاً: الفيل والفرس والملك، وأنا لا ألعبها ولكن حسب ما أقرأ وأسمع أذكر هذه الأشياء منها.
ولا شك عندكم جميعًا -إن شاء الله- إن لم يكن قد تسرب إليكم بعض الآراء المنافية للسنة الصحيحة من أن الصور المحرَّمة إنما هى التي تضرُّ بالأخلاق، وليس هناك ما يضرَّ في مثل هذه الأصنام في العقيدة؛ لأنَّ النبي صلَّى الله عليه وسلم نهى -فيما زعموا- عن التصوير وعن اقتنائه نهيًا مؤقتًا من باب سد الذريعة، وذلك حتى يتمكن التوحيد من قلوب أصحابه؛ فلما زالت الشبهة من قلوبهم، وتمكن التوحيد من نفوسهم؛ انتفى هذا الحكم الشرعي ألا وهو تشديد النَّهي عن التصوير وعن اقتناء الصور.
هذه شبهة طالما سمعناها كثيرًا من بعض من لم يتفقَّهوا في الدِّين، ولا أريد أن أطيل في هذا المجال الآن؛ وإنما حسبي أن أُذكِّر أنَّ التَّصوير بكل أنواعه سواء كان مصورٌ بالقلم، أو بالرِّيشة، أو بالدِّهان، أو بالتَّطريز، أو بأى آلة حديثة اليوم وهي كثيرة، فما دام هناك ما يصح أن يطلق عليه لغة إنه مُصوِّرٌ، وإنها صورة؛ فلا يجوز تصويرها، وبالتالي لا يجوز اقتناؤها؛ لدخول تلك الأنواع كلها في عموم هذه الأحاديث المشار إليها؛ كمثل قوله عليه السَّلام من حيث تحذيره عن التَّصوير: ((كُلُّ مُصَوِّر فِي النَّارِ))، ومن حيث نهيه عن اقتناء كل صورة ألا وهو قوله عليه السلام: ((لاَ تَدْخُلُ الْمَلاَئِكَةُ بَيْتًا فِيهِ صُورَةٌ أَوْ كَلْبٌ)).
إذ الأمر كذلك فلا يجوز اللعب بالشطرنج مادامت هذه التماثيل ظاهرة فيه؛ وحينئذ إذا كان ولابدَّ من اللعب بالشطرنج؛ فيجب القضاء على هذه التماثيل.
بعد ذلك يأتي شرطٌ ثاني: ألا وهو أن لا يصبح اللاعب بالشِّطرنج عبدًا له يصرِفُه عن عبوديته الحق بالنسبة لله -سبحانه وتعالى-، يصرِفه عن القيام بالفرائض الواجبة عليه وليست هي الصلوات الخمس مثلاً ومع الجماعة.
أي: لا يكفي أن نقول: إن المحظور من اللعب بالشطرنج هو فقط ألا يلهيه عن القيام بالواجبات، والفرائض الخمس ومع الجماعة؛ بل يجب أن نقرن إلى ذلك أن هذا اللعب لا يصرفه عن كل واجب فرضه الله -تبارك وتعالى- عليه؛ كمثل -مثلاً-: القيام بواجبه تجاه أهله، تجاه أولاده، تجاه إخوانه بصورة عامة.
فإن خلا -ولا أقول: إذا خلا– فإن خلا اللعب بالشِّطرنْج من هذا النوع من المعاصي؛ نقول –حينذاك-: فهو جائز تمسُّكًا بالبراءة الأصلية؛ حيث أنَّ الأصل في الأشياء الإباحة؛ إلا إذا جاء نصٌّ يضطرنا أن ننتقل منه إلى ما تضمَّنه النَّاقل من الحكم إمَّا تحريمًا وإمَّا كراهةً.
هذان مثالان مِن الأمثلة التي ابتُلِيَ النَّاس باللهو بها وإضاعة الوقت عليها؛ مثالٌ منهيٌّ عنه مباشرة ولا يجوز تعاطيه مطلقًا؛ ألا وهو: النَّرد.
ومثالاً لا يصحُّ فيه نهيٌ خاص ألا وهو: الشطرنج. فيجب أن يدار الحكم فيه حسب ما يحيط به من المحاذير، فإن خلا عن شيء من ذلك؛ جاز اللعب به من باب الترويح على النَّفس، ليس إلا كما يُقال.
إذا عرفنا حكم هذين المثالين انتقلنا إلى الجواب عن السؤال؛ وهو: "اللعب بالكرة".
لا شك أن اللعب بالكرة شأن كل الألعاب التي تعرف اليوم -إلا ما ندر منها- فإن أصلها أعجميٌّ؛ النرد اسمه نردشير من فارس، والشِّطرنْج أصله - فيما أظن لعله- من الصين أو غيره من البلاد.
الشاهد كذلك كرة القدم هي لعبة وبدعة عصريَّة جاءتنا من البلاد الأوروبية؛ فإذا أراد المسلمون أن يلعبوا بها؛ فأول كل شيء يجب أن ينووا التَّقوِّي؛ تقوية البدن استعدادًا لما يجب عليهم أن يخوضوا في العهد القريب أو البعيد في لقاء أعداء الله -تبارك وتعالى-، فلابدَّ والحالة هذه أن تكون أبدانهم صلبة قويَّة تثبتُ أمام أعداء الله الأشداء.
وقد جاء في الحديث الصَّحيح من قوله عليه الصَّلاة والسَّلام: ((الْمُؤْمِنُ الْقَوِيُّ أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِ الضَّعِيفِ، وَفِيِ كُلٍّ خَيْرُ)). ((الْمُؤْمِنُ الْقَوِيُّ أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِ الضَّعِيفِ، وَفِيِ كُلٍّ خَيْرُ)).
فلا يخلو المؤمن ولو كان ضعيفًا حتى في إيمانه، لا يخلو من خير قد ينجيه من الخلود في العذاب يوم يُقال لجهنم: هل امتلئتِ؟ فتقول: هل من مزيد؟
فإذا كانت القوة مرغوبة في المسلم، فإذن لا مانع؛ بل لعله يستحب أن يتعاطى المسلم هذا اللعب بهذه النيَّة الصَّالحة، فقد جاء أيضًا في الصَّحيح قوله صلَّى الله عليه وعلى آله وسلَّم في تفسير الآية الكريمة: ﴿وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ﴾ قال عليه السلام: ((أَلاَ إِنَّ الْقُوَّةَ الرَّمْيُ، أَلاَ إِنَّ الْقُوَّةَ الرَّمْيُ، أَلاَ إِنَّ الْقُوَّةَ الرَّمْيُ)).
فاللعب بالرمي سواء كان قديمًا بالقوس، أو حديثًا بالرصاص أو القذائف أو نحو ذلك من الأسلحة المدمرة اليوم؛ فهو من الوسائل التي لابد أن يتعاطاها المسلم لتقوية جسمه؛ ذلك قد يتطلب خروجًا من البلد حتى لا يصاب بعض المسلمين خطئاً بأذى الرمي.
أمَّا هذه اللعبة -لعبة الكرة- فهذه ليس فيها ما يُخشَى منها؛ سوى ما قد أشرنا إليه آنفًا: مما قد يتعرض له اللاعب بالشِّطرنْج؛ فينبغي أن نقيَّد الجواز بتلك الشروط.
ومن الملاحظ أن أكثر الألعاب، ولنقل: بخاصة المباريات التي تجري بين فريقين، ولو كانا مسلمين؛ فإنه لا يُراعى في ذلك حدود الله -تبارك وتعالى-؛ فقد تفوت اللاعبين بعض الصلوات؛ كصلاة العصر مثلاً، إذا بدأت المباراة قبل العصر، أو صلاة المغرب، إذا بدأت المباراة بعد صلاة العصر وقبيل المغرب، فهذا شرطٌ يشمله ما سبق من الكلام.
وثمَّة شيءٌ آخر يتعلق بهذه اللعبة ومثيلاتها؛ كلعبة كرة السلة ونحوها؛ فإن عادة الكفار، مادام أنَّهم هم الذين ابتدعوا هذه اللعبة؛ فإنهم يلبسون لها لباسًا خاصًا، ولباسًا قصيرًا لا يستر العورة الواجب سترها شرعًا، فاللباس هذا يكشف عن الفخذ، والفخذ كما صحَّ عن النبي صلَّى الله عليه وعلى آله وسلم أنَّه قال: ((الْفَخِذُ عَوْرَةٌ، الْفَخِذُ عَوْرَةٌ)).
فلا يجوز للاعبين ولو كانوا متمرنين، فضلاً عن إن كانوا مباريين لغيرهم، لا يجوز لهم أن يلبسوا هذا اللباس القصير الذى يُسمَّى في لغة الشرع -اللغة العربية-: بالتُّـبَّان.
والتُّبـَّان: هو السروال الذي ليس له كُمًّا؛ ويُسمَّى في بعض البلاد باللغة الأجنبية: بالشورت.
وأنتم ما أدري ماذا تسمُّونه؟
أحد الحضور: الشورت.
الشيخ: ها؟
المتحدث: الشورت.
الشيخ: كذلك!
لعلها لفظة إنجليزية آه! فاسمها العربي احفظوا هذا؛ لأن من الإسلام أن نستبدل الذي هو خير بالذي هو أدنى، أن نستبدل اللفظ العربي باللفظ الأجنبي ، أن نقيم اللفظ الأجنبي ونحلَّ مكانه اللفظ العربي؛ لأنها لغة القرآن الكريم.
فهذا اللباس "التُّبـَّان" لا يجوز للمسلم أن يلبسه أمام أحدٍ سوى زوجته فقط.
فالذي -إذن- يلعب هذه اللعبة أمام مرئى بعض النَّاس؛ فذلك حرامٌ لا لذاتها؛ وإنما لما أحاط بها من اللباس غير المشروع.
فصار عندنا بالنسبة لهذه اللعبة خاصة:
ألا تلهي كالشطرنج عن بعض الواجبات الشرعيَّة، وخاصة الصلاة.
وثانيًا: أن يكون اللباس شرعيًّا ساترًا للعورة.
ويأتى ثالثًا: أن يكون اللعب بما يُسمَّى اليوم -اسمًا على غير مسمَّى-: بالروح الرياضية؛ أقول: اسم على غير مسمى؛ لأن كثيرًا ما يقع قتال وضرب بين المسلمين المتبارين فضلاً عن الكافرين.
وفي الغرب تقع مشاكل ضخمة جدًّا يروح فيها قتلى، وهم يزعمون أن المقصود من هذه الألعاب هو تنمية الروح الرياضية!
والمقصود بها بطبيعة الحال أن الإنسان لا يحقد إذا ما شعر بأن خصمه سيتغلب عليه أو تغلب عليه فعلاً؛ فالمسلم لا يحقد ولا يحسد؛ فلا ينبغي أن تصبح هذه اللعبة أداة إفساد للأخلاق.
فحين ذاك ولو توفرت الشَّروط أو الشَّرطان السَّابقان من حيث عدم أن يكون سببًا لإضاعة الصلوات أو لكشف العورات، فلو فرضنا أن هذه اللعبة خلت من هاتين الظاهرتين المخالفتين للشَّرع؛ ولكنها تنمي وتقوي في نفوس اللاعبين بها روح الانتقام والحقد والتغلب بالباطل على الخصم؛ فحينذاك يكون هذا الأمر من جملة الأسباب التي ينبغي منع تعاطي هذه اللعبة.
فإذن الأصل -ألخص الآن ما تقدم- الأصل- في الملاهي التى يلهو بها النَّاس ما عدا الأربع الخصال المذكورة في حديث جابر: أنها باطلٌ لغوٌ لا قيمة له، ولا ينبغى للمسلم أن يضيع وقته من وراءها؛ اللهم إلا إذا حسنت النيَّة، ولا أقل فيها أن يكون المقصود التَّرويح عن النَّفس، مع ملاحظة الشَّروط التى سبق ذكرها.
هذا ما يتيسر لي من الجواب عن ذاك السؤال الذي كان وُجِّه إليَّ في الجلسة القريبة.
السَّائل: في صحيح الجامع ذُكِرَ في حديث أنَّ الرَّسول عليه الصلاة والسلام نهى عن صلاة الجنازة في المقبرة، وهناك حديث آخر أنَّ الرسول عليه الصَّلاة والسَّلام عندما أتى وعلم أن التي تكنس المسجد امرأة قد تُوفِّيَت فذهب وصلَّى في المقبرة، كيف نُوفِّق بين الحديثين؟
الشيخ: لا تناقض بين الحديثين والحمد لله؛ فالحديث الأول: النَّهي عن الصلاة في المقبرة هو كقوله عليه الصلاة والسلام في صحيح مسلم: ((لا تجلسوا على القبور ولا تصلّوا إليها))؛ فالنَّهي عن الصلاة في المقبرة؛ أى: الصلاة إلى القبور؛ لأنَّ الصَّلاة يجب أن تكون خالصة لوجه الله -تبارك وتعالى- لا يشوبها ولا يخالطها شيءٌ من التَّعظيم لغير الله فيها؛ فإنه من أنواع الشرك.
فإذا قام المسلم يُصلِّي لله وإلى القبر؛ كان هناك شبهة ظاهرة بأنَّ هذا الإنسان يقصد على الأقل- كما يفعل كثير من الجهَّال في هذا الزمان- يقصد التَّبرُّك بهذا الميت؛ بصلاته وتقرُّبه إلى الله -عزَّ وجلَّ- بصلاته؛ فقد يقع في شيءٍ من الشِّرك قد يغلو فيه ويصل أمره إلى أن يخرجه من دائرة الإسلام -والعياذ بالله-.
هذا المعنى الذي ينبغي أن يُلاحظ في نهي الرَّسول عليه السَّلام عن الصَّلاة في المقبرة أو عن الصَّلاة إلى القبر.
أما الصَّلاة على الميت وهو في قبره فهذا شيء آخر ليس له علاقة بالصَّلاة لله وحده لا شريك له، وإلى قبر الميت يُقصد بهذه الصلاة ليغفر له ليرحمه؛ كما هو المعنى المتضمَّن للدعاء على الميت.
فالصلاة إذن على الميت وهو في قبره شيء والصلاة لله -عزَّ وجلَّ- مستقبلاً القبر شيء آخر، هذا هو المنهيُّ وذلك هو الجائز؛ فلا إشكال بين هذا وهذا .
السَّائل:
بسم الله، والصَّلاة والسَّلام على رسول الله. أما بعد: ورد في صحيح البخاري حديث عن الرَّسول صلَّى الله عليه وسلَّم، ترويه عائشة -رضي الله عنها- أنَّ الرَّسول صلَّى الله عليه وسلَّم صلَّى في الحضر جمعًا الظهر والعصر، فهل يجوز للمسلم أن يُصلِّي صلاتين، دون عذر -تقول عائشة- ولا سفر، فهل يجوز للإنسان المقيم في بلده أن يجمع الظهر مع العصر دون عذر؟ أفيدونا أفادكم الله.
الشيخ:
السؤال مفهوم؛ لكن فيه خطأ يجب تصحيحه؛ وهو أن السيدة عائشة -رضي الله عنها- ليس لها حديث في هذا المعنى إطلاقًا، وكذلك ليس في صحيح البخاري حديث في هذا المعنى -أيضًا- ولو عن غير عائشة.
إنما أنت تشير إلى حديث ابن عباس الذي أخرجه الإمام مسلمٌ في صحيحه عن ابن عباس قال: "جَمَعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْمَدِينَةِ بَيْنَ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ وَبَيْنَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ دُونَ سَفَرٍ وَلاَ مَطر، قالوا: ماذا أراد بذلك يا أبا العباس؟ -كنية عبد الله بن عباس-، ماذا أراد بذلك؟ قال: أَرَادَ أَلاَّ يُحْرِجَ أُمَّتَهُ". أراد أن لا يحرج أمته.
فظاهر الحديث أنه يجوز الجمع بين الصلاتين في حالة الإقامة وبدون عذر المطر؛ لأنَّ المطر عذرٌ شرعيٌّ يجيز الجمع بين الصلاتين؛ وهنا يقول ابن عباس: بأن النبي صلَّى الله عليه وسلم جمع مقيمًا، وجمع دون عذر المطر، وأكد ذلك حينما وُجِّهَ إليه السؤال السابق، لمَ فعل ذلك؟ قال: ((أَرَادَ أَلاَّ يُحْرِجَ أُمَّتَهُ)).
هذا هو الحديث، وفي صحيح مسلم دون البخاري، يوجد في البخاري معنى هذا الحديث: جمع بين الصلوات في المدينة ثمانيًا؛ لكن ليس فيه هذا التفصيل الذي ذكره أو رواه الإمام مسلم عن ابن عباس؛ وفيه هذه النُّكتة الهامة التي كانت جوابا لذاك السؤال؛ ألا وهو قوله -رضى الله عنه-: ((أَرَادَ أَلاَّ يُحْرِجَ أُمَّتَهُ)).
فيذهب بعض العلماء قديمًا وحديثًا إلى جواز هذا الجمع في الإقامة بدون عذر، ولا أرى ذلك صوابًا.
ذلك لأنَّ راوي الحديث يُعلِّل جمع الرسول عليه الصَّلاة والسَّلام بدون عذر بعذر آخر من باب التَّشريع والبيان للناس؛ حيث قال ابن عباس -رضى الله عنه-: أراد أن لا يحرج أمته عليه الصلاة والسلام.
ومعنى ذلك: قَيْدُ حكم الجمع في الإقامة بوجود الحرج في عدم الجمع؛ فحيث وجِدَ الحرج في إقامة الصلوات في مواقيتها المعروفة؛ فدفًعا للحرج الذي نفاه الله -عزَّ وجلَّ- في مثل قوله: ﴿وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ﴾ ، يجوز الجمع.
أما إذا لم يكن هناك حرج؛ حينذاك وجب المحافظة على آداء الصلوات الخمس، كل صلاة في وقتها؛ لأنه لا حرج.
مثلاً أنا جالس هنا وأسمع الآذان هناك في المسجد القريب مني، وأنا قادر على الخروج، وليس شيء من الحرج عليَّ أن أخرج؛ فلا يجوز ليَ الجمع.
وعلى العكس من ذلك: لما جئت من هذه السفرة وجدت هذا المصعد الكهربائي متعطلاً، وأنا يصعُبُ علىَّ جدًّا -كما ترون- لوجع في رُكبيَّ- أن أهبط وأنزل بطريق السلم، أو أن أصعد؛ فمرَّ عليَّ بعض الصَّلوات لا أخرج إلى المسجد؛ ولكن لما صُلِّحَ المصعد الكهربائي فوفَّرَ علىَّ صعوبة الطلوع والنزول؛ صار لِزامًا علىَّ أن أصلِّي كل صلاة في المسجد؛ لأني لا أجد ذاك الحرج الذي وجدته أول ما حللت ها هنا.
فإذن إنما يجوز الجمع لدفع الحرج، فحيث لا حرج لا جمع؛ فهما أمران متلازمان: لا حرج لا جمع، فيه حرج فيه جمع.
وهذا أحسن ما يُقال في التوفيق بين هذا الحديث الصحيح وبين الأحاديث الصَّحيحة التي تأتي مُصرِّحة بأنَّ كل صلاة لوقتها، وأنَّه لا يجوز الالتهاء عنها؛ وبخاصة أنَّ الجمع يستلزم في أكثر الأحوال الإعراض عن الصلاة مع الجماعة، كما وصفت لكم حالي الأولى.
هذا جواب عما سألتم.
السَّائل:
متى يكون المُدْرِكُ مِنَّا للركوع مُدْرِكًا للركعة؟ الإمام راكعٌ إذا أدركناه في الرُّكوع هل نكون مُدركين للركعة؟
الشَّيخ:
هذه مسألة خلافية بين جمهور الأئمة وبعض الأئمة؛ جمهور الأئمة، وفي مقدمتهم الأئمة الأربعة على أن مدرك الركوع مُدركٌ للرَّكعة.
بعض الأئمة كالإمام البخاري -من السلف- والإمام الشوكاني -من الخلف الصالح- يرون –وما بينهما كثير- يرون أنَّ مدرك الركوع لا يعتد بتلك الركعة؛ لأنه قد فاته قراءة الركن ألا وهو الفاتحة.
وأرى أنَّ المذهب الأول مذهب الجمهور هو الصواب في هذه المسألة، وإن كنت -كما تعلمون إن شاء الله- لست جمهوريًّا؛ وإنما أنا أتبع الحق حيثما كان مع الكثير أو القليل؛ وذلك لأسباب منها -وهو أهمها-: أنه قد ثبت لديَّ الحديث الذي رواه أبو داوود في سننه بإسنادٍ غير إسناده، أنَّ من أتى الإمام وهو راكع؛ فليركع، وليعتد بالركعة. وإذا وجد الإمام ساجدًا فليسجد، ولا يعتد بالركعة، فأُخِذَ من هذا أن مدرك الركوع مدرك للركعة.
لكن حديث أبى داود بلا شك فيه ضعف ظاهر، وإن كان هذا الضعف ليس شديدًا؛ بل ولو كان شديدًا لأستغنينا عنه بإسنادين آخرين مدارهما على رجل من الأنصار، وأعني بإسنادين، باعتبار من أخرجهما، ولا أعني بإسنادين كل من المخرجين رواه بإسناد أولاً، ثم رواه آخر بإسناد ثان. لا.
وإنما أعني أن الإمام البيهقي -رحمه الله- روى في هذا الحديث الذي في سنن أبي داود [..] بإسناد قوي عن رجل من الأنصار من طريق عبد العزيز بن رُفيْع، عن رجل من الأنصار أن النَّبي صلَّى الله عليه وسلَّم قال، وذكر معنى الحديث الذى ذكرته لكم آنفًا.
علة هذا الإسناد في رواية البيهقي أننا لم نعلم أنَّ هذا الرجل الأنصاري أهو تابعي أم هو صحابي؟
وإن كان يتبادر إلى الذهن أنه صحابي؛ لأن الراوي عنه تابعي معروف؛ وهو: عبد العزيز بن رُفيْع؛ ولكن الإنصاف يقتضينا أنَّ هذا التلازم ليس ضروريًّا في الأسانيد؛ أي: لا يلزم من رواية تابعي عن رجل من الأنصار، أو رجل من المهاجرين، أن يكون هذا الرجل أو ذاك صحابيًا؛ لاحتمال أن يكون ابن صحابي من جهة، ولأنَّه قد وقفنا مرارًا وتكرارًا على بعض الأسانيد يرويه التابعي عن تابعي عن صحابي.
وذكر الحافظ بن حجر أنه بالاستقراء تبين أنه في بعض الأحاديث بين التابعي الأول والصحابي أربعة من التابعين آخرين! أي: خمسة تابعين على التسلسل، ثم يأتي بعد ذلك الصحابي؛ تابعي، عن تابعي، عن تابعي، عن تابعي، عن تابعي، عن الصحابي، فضلاً عن تابعي، عن تابعي، عن تابعي، عن تابعي، عن صحابي، فضلاً عن تابعي، عن تابعي، عن تابعي عن صحابي، وهكذا.
فحينما نجد مثل هذه الرواية: عبد العزيز بن رُفيْع تابعي، عن رجل من الأنصار؛ ترى هذا صحابي أم تابعي!؟ يحتمل!
ثم وجدنا -والحمد لله- أن هذا الاحتمال طاح وراح إلى حيث لا رجعة، فقد جاء في كتاب: "المسائل" لإسحاق بن منصور الْمَرْوَزِيّ، عن الإمام أحمد، وعن اسحاق بن راهويه، روى الْمَرْوَزِيُّ هذا باسناده الصَّحيح، عن عبد العزيز بن رُفيْع عن رجل من الأنصار من أصحاب النَّبي صلَّى الله عليه وسلَّم، هذا غطَّى الموضوع، وجعل الإسناد موصولاً بعد أن كان يحتمل أن يكون مرسلاً؛ وبذلك صح الحديث، وقامت الحجة.
يضاف إلى ذلك آثار عن كبار الصحابة؛ وعلى رأسهم أبو بكر الصديق، وآخرهم سنًّا عبد الله بن عمر بن الخطاب، كلهم قالوا: بأن مدرك الركوع مدركٌ للركعة؛ فاتفقت الآثار السلفية الصحيحة مع هذا الحديث الصحيح -والحمد لله-، وثبت بذلك أرجحية مذهب الجمهور على المخالفين، وإن كان بعض العاملين بالحديث إلى زمننا هذا لا يزالون يفتون بأن مدرك الركوع ليس مدركًا للركعة.
وأذكر أن أحد الغُماريين -وإن كان هو من أهل الأهواء ومن الصوفية، الذين لهم طرق انحرفوا بها عن السنة- ألَّف رسالة يؤكِّد فيها أن الصَّواب أن مدرك الركوع ليس مدركًا للركعة.
والواقع أنه هو شأنه في ذلك شأن بعض أهل الحديث في الهند فاتتهم هذه الرواية الصحيحة، التي لا تزال موجودة في ذاك المخطوط النادر العزيز في المكتبة الظاهرية، مخطوط من النوادر لأنه يعود تاريخ كتابته إلى العهد القريب من الإمامين: أحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه.
ولو أنهم وقفوا على هذه الرواية لانقلبت وجهة نظرهم من تأييد الرأي المخالف للجمهور، إلى تأييد رأي الجمهور في هذه المسألة.
وهم لا يخفى عليهم بعض تلك الآثار؛ ولكنهم يطبقون القاعدة التى ينبغي على المسلم أن يلتزمها؛ وهي: "أن الأثر إذا جاء مخالفًا للنص ولو بإجتهاد؛ فلا ينبغى أن نأخذ بالأثر"؛ أعني بالأثر هنا ما أشرت إليه آنفًا من الأثر عن أبي بكر، وعن ابن عمر، وبينهما جماعة آخرون كثيرون؛ كزيد بن ثابت، وعبد الله بن مسعود، وهم أربعة من الصحابة، وهم -كما ترون- من أكابر الصحابة، رأوا وصرَّحوا بأن مدرك الرُّكوع مُدرِكًا للرَّكعة.
فهم لم يأخذوا بهذه الآثار لتوهمهم أنها مخالفة لقوله عليه الصلاة والسلام: ((لاَ صَلاَةَ لِمَنْ لَمْ يَقْرَأْ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ)).
ونحن نرى أن هذا العموم الشامل لهذا الجزء لا يشمله؛ لما ذكرناه في غير هذه الجلسة أكثر من مرة؛ ولهذا الحديث الصحيح. وبذلك ينتهي الجواب عن هذا السؤال.
السَّائل:
إنَّ بعض الجماعات الإسلاميَّة التي تتخذ منهجها منهج السلف، قد يكون بعض المنتمين إليها قد أخطأ أو وقع في خلاف فقهي أو في تقديم الدعوة، وبعد ذلك فُصِلَ لاختلافه مع أميرهم أو رئيسهم، فهل هذا الفصل يبعده عن أصله في منهجه؟
الشيخ:
أما ما أسمعه -الآن- في هذا السؤال من أن يُفصَل المسلم عن الجماعة، والجماعة السلفية لمجرد أنه أخطأ في مسألة أو في أخرى؛ فما أرى هذا إلا من عدوى الأحزاب الأخرى؛ هذا الفصل هو من نظام بعض الأحزاب الإسلامية التى لا تتبنَّى المنهج السلفي منهجًا في الفقه والفهم الإسلامي.
وإنما هو حزب يغلب عليه ما يغلب على الأحزاب الأخرى من التكتل والتجمع على أساس دولة مصغرة، من خرج على طاعة رئيسها أُنذِرَ أولاً وثانيًا وثالثًا ربما؛ ثم حُكِمَ بفصله.
مثل هذا لا يجوز أن يتبناه جماعة ينتمون بحق إلى كتاب الله وإلى حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى منهج السلف الصالح.
حيث صارت شهوة كل شاب نشأ في مجتمع فيه شيء مما يُسمَّى اليوم بالمدنية.
وجوابى على ذلك كما يأتى:
اللعب بالكرة لا يخرج عن أي لعبة أخرى يتعاطاها المسلم فهى داخلة في عموم قوله عليه الصَّلاة والسَّلام: ((كل لهو يلهو به ابن آدم باطل إلا ملاعبته لزوجه، ومداعبته لفرسه ورميه بقوسه، والسباحة)) .
لقد ذكر الَّنبي صلَّى الله عليه وسلَّم هذه اللعب والملاهي التى كان يلهو بها النَّاس يومئذ، فاستثناها من اللهو الباطل.
ويجب أن نتنبَّه هنا بمناسبة هذا الحديث لأمرين اثنين:
الأول: أنَّ الحديث -كما سمعتم- بلفظ: "باطلٌ"، وليس بلفظ: "محرَّمٌ".
والأمر الثَّاني: أننا إذا انتبهنا لهذا الفرق؛ فحينئذٍ نعلم أن هناك فرقًا فقهيًّا أيضًا، فإذا كان الحديث إنما ورد بلفظ: "باطل"؛ فلا يعني أنَّه بمعنى: محرم؛ لأنَّ الباطل هو أشبه ما يكون من حيث المعنى المراد منه هو: اللغو. أما المحرَّم فلفظ صريح في وجوب الابتعاد عنه.
إذا عرفت ذلك فحينئذ نستطيع أن نقول: أن كل لهو يلهو به الإنسان في أي زمان ومكان؛ فهو لغوٌ باطل لا أجر له، هذا إن نجا من الإثم.
والإثم قد يأتي من ذات النَّوع الذى يلعب به وقد يأتي مما يحيط بنوع اللعب الذى يلعب به؛ ولنضرب على ذلك مثلين اثنين؛ فالأمر كما قال تعالى: ﴿وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ﴾ أو يتذكرون :
المثلان هما: اللعب بالنَّرد واللعب بالشِّطرنْج.
فاللعب بالنَّرد منهيٌّ عنه بالنَّص ولذاته؛ فقد جاء وصحَّ عن النبيِّ صلَّى الله عليه وعلى آله وسلَّم أنه قال: ((مَنْ لَعِبَ بِالنَّرْدَشِيرِ فَكَأَنَّمَا غَمَسَ يَدَهُ فِي لَحْمِ خِنْزِيرٍ وَدَمِهِ)) ((مَنْ لَعِبَ بِالنَّرْدَشِيرِ فَكَأَنَّمَا غَمَسَ يَدَهُ فِي لَحْمِ خِنْزِيرٍ وَدَمِهِ))، والنص الآخر: ((مَنْ لَعِبَ بِالنَّرْدِ فَقَدْ عَصَى اللَّهَ وَرَسُولَهُ)).
فإذن لا يجوز اللعب بالنَّرد لذاته؛ لما فيه من هذا التَّرهيب الشَّديد: ((مَنْ لَعِبَ بِالنَّرْدَشِيرِ فَكَأَنَّمَا غَمَسَ يَدَهُ فِي لَحْمِ خِنْزِيرٍ وَدَمِهِ)). ومعلومٌ عند الجميع أن لحم الخنزير ودمه نجس نجاسة عيْنيَّة، ولا يجوز إذن اللعب بهذا النَّوع من الملاهي، وهذا هو المثال الأول.
أما المثال الثاني فكما ذكرت -آنفًا-: اللعب بالشطرنج.
لا يوجد هناك حديثٌ صحيحٌ في النَّهي عن اللعب بالشطرنج؛ وإذ الأمر كذلك فما حكمه؟
لا نستطيع أن نقول: إنَّه حرام؛ لأنه لم يرد فيه نص، ولا نستطيع أن نقول: إنَّه مباحٌ مطلقٌ؛ لأنه داخل في الحديث الأول وهو: ((كل لهو))، والمكني عنه باسم راويه وهو: "جابر بن عبد الله الأنصاري" ، فحديث جابر هذا فيه هذا العموم أن كل اللعب إنما هو باطل؛ فمن ذلك إذن: اللعب بالشطرنج فهو باطل.
هذا الباطل يجب أن ينظر إليه بالنسبة لما قد يحيط به من منكر يرفعه ويصفُّه في مصافِّ المحرَّمات، وإما أن يرفعه إلى مصافِّ المباحات.
فإذا كان اللعب بالشطرنج -كما هو الواقع اليوم- فيه بعض التَّماثيل مما يعرف بمثلاً: الفيل والفرس والملك، وأنا لا ألعبها ولكن حسب ما أقرأ وأسمع أذكر هذه الأشياء منها.
ولا شك عندكم جميعًا -إن شاء الله- إن لم يكن قد تسرب إليكم بعض الآراء المنافية للسنة الصحيحة من أن الصور المحرَّمة إنما هى التي تضرُّ بالأخلاق، وليس هناك ما يضرَّ في مثل هذه الأصنام في العقيدة؛ لأنَّ النبي صلَّى الله عليه وسلم نهى -فيما زعموا- عن التصوير وعن اقتنائه نهيًا مؤقتًا من باب سد الذريعة، وذلك حتى يتمكن التوحيد من قلوب أصحابه؛ فلما زالت الشبهة من قلوبهم، وتمكن التوحيد من نفوسهم؛ انتفى هذا الحكم الشرعي ألا وهو تشديد النَّهي عن التصوير وعن اقتناء الصور.
هذه شبهة طالما سمعناها كثيرًا من بعض من لم يتفقَّهوا في الدِّين، ولا أريد أن أطيل في هذا المجال الآن؛ وإنما حسبي أن أُذكِّر أنَّ التَّصوير بكل أنواعه سواء كان مصورٌ بالقلم، أو بالرِّيشة، أو بالدِّهان، أو بالتَّطريز، أو بأى آلة حديثة اليوم وهي كثيرة، فما دام هناك ما يصح أن يطلق عليه لغة إنه مُصوِّرٌ، وإنها صورة؛ فلا يجوز تصويرها، وبالتالي لا يجوز اقتناؤها؛ لدخول تلك الأنواع كلها في عموم هذه الأحاديث المشار إليها؛ كمثل قوله عليه السَّلام من حيث تحذيره عن التَّصوير: ((كُلُّ مُصَوِّر فِي النَّارِ))، ومن حيث نهيه عن اقتناء كل صورة ألا وهو قوله عليه السلام: ((لاَ تَدْخُلُ الْمَلاَئِكَةُ بَيْتًا فِيهِ صُورَةٌ أَوْ كَلْبٌ)).
إذ الأمر كذلك فلا يجوز اللعب بالشطرنج مادامت هذه التماثيل ظاهرة فيه؛ وحينئذ إذا كان ولابدَّ من اللعب بالشطرنج؛ فيجب القضاء على هذه التماثيل.
بعد ذلك يأتي شرطٌ ثاني: ألا وهو أن لا يصبح اللاعب بالشِّطرنج عبدًا له يصرِفُه عن عبوديته الحق بالنسبة لله -سبحانه وتعالى-، يصرِفه عن القيام بالفرائض الواجبة عليه وليست هي الصلوات الخمس مثلاً ومع الجماعة.
أي: لا يكفي أن نقول: إن المحظور من اللعب بالشطرنج هو فقط ألا يلهيه عن القيام بالواجبات، والفرائض الخمس ومع الجماعة؛ بل يجب أن نقرن إلى ذلك أن هذا اللعب لا يصرفه عن كل واجب فرضه الله -تبارك وتعالى- عليه؛ كمثل -مثلاً-: القيام بواجبه تجاه أهله، تجاه أولاده، تجاه إخوانه بصورة عامة.
فإن خلا -ولا أقول: إذا خلا– فإن خلا اللعب بالشِّطرنْج من هذا النوع من المعاصي؛ نقول –حينذاك-: فهو جائز تمسُّكًا بالبراءة الأصلية؛ حيث أنَّ الأصل في الأشياء الإباحة؛ إلا إذا جاء نصٌّ يضطرنا أن ننتقل منه إلى ما تضمَّنه النَّاقل من الحكم إمَّا تحريمًا وإمَّا كراهةً.
هذان مثالان مِن الأمثلة التي ابتُلِيَ النَّاس باللهو بها وإضاعة الوقت عليها؛ مثالٌ منهيٌّ عنه مباشرة ولا يجوز تعاطيه مطلقًا؛ ألا وهو: النَّرد.
ومثالاً لا يصحُّ فيه نهيٌ خاص ألا وهو: الشطرنج. فيجب أن يدار الحكم فيه حسب ما يحيط به من المحاذير، فإن خلا عن شيء من ذلك؛ جاز اللعب به من باب الترويح على النَّفس، ليس إلا كما يُقال.
إذا عرفنا حكم هذين المثالين انتقلنا إلى الجواب عن السؤال؛ وهو: "اللعب بالكرة".
لا شك أن اللعب بالكرة شأن كل الألعاب التي تعرف اليوم -إلا ما ندر منها- فإن أصلها أعجميٌّ؛ النرد اسمه نردشير من فارس، والشِّطرنْج أصله - فيما أظن لعله- من الصين أو غيره من البلاد.
الشاهد كذلك كرة القدم هي لعبة وبدعة عصريَّة جاءتنا من البلاد الأوروبية؛ فإذا أراد المسلمون أن يلعبوا بها؛ فأول كل شيء يجب أن ينووا التَّقوِّي؛ تقوية البدن استعدادًا لما يجب عليهم أن يخوضوا في العهد القريب أو البعيد في لقاء أعداء الله -تبارك وتعالى-، فلابدَّ والحالة هذه أن تكون أبدانهم صلبة قويَّة تثبتُ أمام أعداء الله الأشداء.
وقد جاء في الحديث الصَّحيح من قوله عليه الصَّلاة والسَّلام: ((الْمُؤْمِنُ الْقَوِيُّ أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِ الضَّعِيفِ، وَفِيِ كُلٍّ خَيْرُ)). ((الْمُؤْمِنُ الْقَوِيُّ أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِ الضَّعِيفِ، وَفِيِ كُلٍّ خَيْرُ)).
فلا يخلو المؤمن ولو كان ضعيفًا حتى في إيمانه، لا يخلو من خير قد ينجيه من الخلود في العذاب يوم يُقال لجهنم: هل امتلئتِ؟ فتقول: هل من مزيد؟
فإذا كانت القوة مرغوبة في المسلم، فإذن لا مانع؛ بل لعله يستحب أن يتعاطى المسلم هذا اللعب بهذه النيَّة الصَّالحة، فقد جاء أيضًا في الصَّحيح قوله صلَّى الله عليه وعلى آله وسلَّم في تفسير الآية الكريمة: ﴿وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ﴾ قال عليه السلام: ((أَلاَ إِنَّ الْقُوَّةَ الرَّمْيُ، أَلاَ إِنَّ الْقُوَّةَ الرَّمْيُ، أَلاَ إِنَّ الْقُوَّةَ الرَّمْيُ)).
فاللعب بالرمي سواء كان قديمًا بالقوس، أو حديثًا بالرصاص أو القذائف أو نحو ذلك من الأسلحة المدمرة اليوم؛ فهو من الوسائل التي لابد أن يتعاطاها المسلم لتقوية جسمه؛ ذلك قد يتطلب خروجًا من البلد حتى لا يصاب بعض المسلمين خطئاً بأذى الرمي.
أمَّا هذه اللعبة -لعبة الكرة- فهذه ليس فيها ما يُخشَى منها؛ سوى ما قد أشرنا إليه آنفًا: مما قد يتعرض له اللاعب بالشِّطرنْج؛ فينبغي أن نقيَّد الجواز بتلك الشروط.
ومن الملاحظ أن أكثر الألعاب، ولنقل: بخاصة المباريات التي تجري بين فريقين، ولو كانا مسلمين؛ فإنه لا يُراعى في ذلك حدود الله -تبارك وتعالى-؛ فقد تفوت اللاعبين بعض الصلوات؛ كصلاة العصر مثلاً، إذا بدأت المباراة قبل العصر، أو صلاة المغرب، إذا بدأت المباراة بعد صلاة العصر وقبيل المغرب، فهذا شرطٌ يشمله ما سبق من الكلام.
وثمَّة شيءٌ آخر يتعلق بهذه اللعبة ومثيلاتها؛ كلعبة كرة السلة ونحوها؛ فإن عادة الكفار، مادام أنَّهم هم الذين ابتدعوا هذه اللعبة؛ فإنهم يلبسون لها لباسًا خاصًا، ولباسًا قصيرًا لا يستر العورة الواجب سترها شرعًا، فاللباس هذا يكشف عن الفخذ، والفخذ كما صحَّ عن النبي صلَّى الله عليه وعلى آله وسلم أنَّه قال: ((الْفَخِذُ عَوْرَةٌ، الْفَخِذُ عَوْرَةٌ)).
فلا يجوز للاعبين ولو كانوا متمرنين، فضلاً عن إن كانوا مباريين لغيرهم، لا يجوز لهم أن يلبسوا هذا اللباس القصير الذى يُسمَّى في لغة الشرع -اللغة العربية-: بالتُّـبَّان.
والتُّبـَّان: هو السروال الذي ليس له كُمًّا؛ ويُسمَّى في بعض البلاد باللغة الأجنبية: بالشورت.
وأنتم ما أدري ماذا تسمُّونه؟
أحد الحضور: الشورت.
الشيخ: ها؟
المتحدث: الشورت.
الشيخ: كذلك!
لعلها لفظة إنجليزية آه! فاسمها العربي احفظوا هذا؛ لأن من الإسلام أن نستبدل الذي هو خير بالذي هو أدنى، أن نستبدل اللفظ العربي باللفظ الأجنبي ، أن نقيم اللفظ الأجنبي ونحلَّ مكانه اللفظ العربي؛ لأنها لغة القرآن الكريم.
فهذا اللباس "التُّبـَّان" لا يجوز للمسلم أن يلبسه أمام أحدٍ سوى زوجته فقط.
فالذي -إذن- يلعب هذه اللعبة أمام مرئى بعض النَّاس؛ فذلك حرامٌ لا لذاتها؛ وإنما لما أحاط بها من اللباس غير المشروع.
فصار عندنا بالنسبة لهذه اللعبة خاصة:
ألا تلهي كالشطرنج عن بعض الواجبات الشرعيَّة، وخاصة الصلاة.
وثانيًا: أن يكون اللباس شرعيًّا ساترًا للعورة.
ويأتى ثالثًا: أن يكون اللعب بما يُسمَّى اليوم -اسمًا على غير مسمَّى-: بالروح الرياضية؛ أقول: اسم على غير مسمى؛ لأن كثيرًا ما يقع قتال وضرب بين المسلمين المتبارين فضلاً عن الكافرين.
وفي الغرب تقع مشاكل ضخمة جدًّا يروح فيها قتلى، وهم يزعمون أن المقصود من هذه الألعاب هو تنمية الروح الرياضية!
والمقصود بها بطبيعة الحال أن الإنسان لا يحقد إذا ما شعر بأن خصمه سيتغلب عليه أو تغلب عليه فعلاً؛ فالمسلم لا يحقد ولا يحسد؛ فلا ينبغي أن تصبح هذه اللعبة أداة إفساد للأخلاق.
فحين ذاك ولو توفرت الشَّروط أو الشَّرطان السَّابقان من حيث عدم أن يكون سببًا لإضاعة الصلوات أو لكشف العورات، فلو فرضنا أن هذه اللعبة خلت من هاتين الظاهرتين المخالفتين للشَّرع؛ ولكنها تنمي وتقوي في نفوس اللاعبين بها روح الانتقام والحقد والتغلب بالباطل على الخصم؛ فحينذاك يكون هذا الأمر من جملة الأسباب التي ينبغي منع تعاطي هذه اللعبة.
فإذن الأصل -ألخص الآن ما تقدم- الأصل- في الملاهي التى يلهو بها النَّاس ما عدا الأربع الخصال المذكورة في حديث جابر: أنها باطلٌ لغوٌ لا قيمة له، ولا ينبغى للمسلم أن يضيع وقته من وراءها؛ اللهم إلا إذا حسنت النيَّة، ولا أقل فيها أن يكون المقصود التَّرويح عن النَّفس، مع ملاحظة الشَّروط التى سبق ذكرها.
هذا ما يتيسر لي من الجواب عن ذاك السؤال الذي كان وُجِّه إليَّ في الجلسة القريبة.
السَّائل: في صحيح الجامع ذُكِرَ في حديث أنَّ الرَّسول عليه الصلاة والسلام نهى عن صلاة الجنازة في المقبرة، وهناك حديث آخر أنَّ الرسول عليه الصَّلاة والسَّلام عندما أتى وعلم أن التي تكنس المسجد امرأة قد تُوفِّيَت فذهب وصلَّى في المقبرة، كيف نُوفِّق بين الحديثين؟
الشيخ: لا تناقض بين الحديثين والحمد لله؛ فالحديث الأول: النَّهي عن الصلاة في المقبرة هو كقوله عليه الصلاة والسلام في صحيح مسلم: ((لا تجلسوا على القبور ولا تصلّوا إليها))؛ فالنَّهي عن الصلاة في المقبرة؛ أى: الصلاة إلى القبور؛ لأنَّ الصَّلاة يجب أن تكون خالصة لوجه الله -تبارك وتعالى- لا يشوبها ولا يخالطها شيءٌ من التَّعظيم لغير الله فيها؛ فإنه من أنواع الشرك.
فإذا قام المسلم يُصلِّي لله وإلى القبر؛ كان هناك شبهة ظاهرة بأنَّ هذا الإنسان يقصد على الأقل- كما يفعل كثير من الجهَّال في هذا الزمان- يقصد التَّبرُّك بهذا الميت؛ بصلاته وتقرُّبه إلى الله -عزَّ وجلَّ- بصلاته؛ فقد يقع في شيءٍ من الشِّرك قد يغلو فيه ويصل أمره إلى أن يخرجه من دائرة الإسلام -والعياذ بالله-.
هذا المعنى الذي ينبغي أن يُلاحظ في نهي الرَّسول عليه السَّلام عن الصَّلاة في المقبرة أو عن الصَّلاة إلى القبر.
أما الصَّلاة على الميت وهو في قبره فهذا شيء آخر ليس له علاقة بالصَّلاة لله وحده لا شريك له، وإلى قبر الميت يُقصد بهذه الصلاة ليغفر له ليرحمه؛ كما هو المعنى المتضمَّن للدعاء على الميت.
فالصلاة إذن على الميت وهو في قبره شيء والصلاة لله -عزَّ وجلَّ- مستقبلاً القبر شيء آخر، هذا هو المنهيُّ وذلك هو الجائز؛ فلا إشكال بين هذا وهذا .
السَّائل:
بسم الله، والصَّلاة والسَّلام على رسول الله. أما بعد: ورد في صحيح البخاري حديث عن الرَّسول صلَّى الله عليه وسلَّم، ترويه عائشة -رضي الله عنها- أنَّ الرَّسول صلَّى الله عليه وسلَّم صلَّى في الحضر جمعًا الظهر والعصر، فهل يجوز للمسلم أن يُصلِّي صلاتين، دون عذر -تقول عائشة- ولا سفر، فهل يجوز للإنسان المقيم في بلده أن يجمع الظهر مع العصر دون عذر؟ أفيدونا أفادكم الله.
الشيخ:
السؤال مفهوم؛ لكن فيه خطأ يجب تصحيحه؛ وهو أن السيدة عائشة -رضي الله عنها- ليس لها حديث في هذا المعنى إطلاقًا، وكذلك ليس في صحيح البخاري حديث في هذا المعنى -أيضًا- ولو عن غير عائشة.
إنما أنت تشير إلى حديث ابن عباس الذي أخرجه الإمام مسلمٌ في صحيحه عن ابن عباس قال: "جَمَعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْمَدِينَةِ بَيْنَ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ وَبَيْنَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ دُونَ سَفَرٍ وَلاَ مَطر، قالوا: ماذا أراد بذلك يا أبا العباس؟ -كنية عبد الله بن عباس-، ماذا أراد بذلك؟ قال: أَرَادَ أَلاَّ يُحْرِجَ أُمَّتَهُ". أراد أن لا يحرج أمته.
فظاهر الحديث أنه يجوز الجمع بين الصلاتين في حالة الإقامة وبدون عذر المطر؛ لأنَّ المطر عذرٌ شرعيٌّ يجيز الجمع بين الصلاتين؛ وهنا يقول ابن عباس: بأن النبي صلَّى الله عليه وسلم جمع مقيمًا، وجمع دون عذر المطر، وأكد ذلك حينما وُجِّهَ إليه السؤال السابق، لمَ فعل ذلك؟ قال: ((أَرَادَ أَلاَّ يُحْرِجَ أُمَّتَهُ)).
هذا هو الحديث، وفي صحيح مسلم دون البخاري، يوجد في البخاري معنى هذا الحديث: جمع بين الصلوات في المدينة ثمانيًا؛ لكن ليس فيه هذا التفصيل الذي ذكره أو رواه الإمام مسلم عن ابن عباس؛ وفيه هذه النُّكتة الهامة التي كانت جوابا لذاك السؤال؛ ألا وهو قوله -رضى الله عنه-: ((أَرَادَ أَلاَّ يُحْرِجَ أُمَّتَهُ)).
فيذهب بعض العلماء قديمًا وحديثًا إلى جواز هذا الجمع في الإقامة بدون عذر، ولا أرى ذلك صوابًا.
ذلك لأنَّ راوي الحديث يُعلِّل جمع الرسول عليه الصَّلاة والسَّلام بدون عذر بعذر آخر من باب التَّشريع والبيان للناس؛ حيث قال ابن عباس -رضى الله عنه-: أراد أن لا يحرج أمته عليه الصلاة والسلام.
ومعنى ذلك: قَيْدُ حكم الجمع في الإقامة بوجود الحرج في عدم الجمع؛ فحيث وجِدَ الحرج في إقامة الصلوات في مواقيتها المعروفة؛ فدفًعا للحرج الذي نفاه الله -عزَّ وجلَّ- في مثل قوله: ﴿وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ﴾ ، يجوز الجمع.
أما إذا لم يكن هناك حرج؛ حينذاك وجب المحافظة على آداء الصلوات الخمس، كل صلاة في وقتها؛ لأنه لا حرج.
مثلاً أنا جالس هنا وأسمع الآذان هناك في المسجد القريب مني، وأنا قادر على الخروج، وليس شيء من الحرج عليَّ أن أخرج؛ فلا يجوز ليَ الجمع.
وعلى العكس من ذلك: لما جئت من هذه السفرة وجدت هذا المصعد الكهربائي متعطلاً، وأنا يصعُبُ علىَّ جدًّا -كما ترون- لوجع في رُكبيَّ- أن أهبط وأنزل بطريق السلم، أو أن أصعد؛ فمرَّ عليَّ بعض الصَّلوات لا أخرج إلى المسجد؛ ولكن لما صُلِّحَ المصعد الكهربائي فوفَّرَ علىَّ صعوبة الطلوع والنزول؛ صار لِزامًا علىَّ أن أصلِّي كل صلاة في المسجد؛ لأني لا أجد ذاك الحرج الذي وجدته أول ما حللت ها هنا.
فإذن إنما يجوز الجمع لدفع الحرج، فحيث لا حرج لا جمع؛ فهما أمران متلازمان: لا حرج لا جمع، فيه حرج فيه جمع.
وهذا أحسن ما يُقال في التوفيق بين هذا الحديث الصحيح وبين الأحاديث الصَّحيحة التي تأتي مُصرِّحة بأنَّ كل صلاة لوقتها، وأنَّه لا يجوز الالتهاء عنها؛ وبخاصة أنَّ الجمع يستلزم في أكثر الأحوال الإعراض عن الصلاة مع الجماعة، كما وصفت لكم حالي الأولى.
هذا جواب عما سألتم.
السَّائل:
متى يكون المُدْرِكُ مِنَّا للركوع مُدْرِكًا للركعة؟ الإمام راكعٌ إذا أدركناه في الرُّكوع هل نكون مُدركين للركعة؟
الشَّيخ:
هذه مسألة خلافية بين جمهور الأئمة وبعض الأئمة؛ جمهور الأئمة، وفي مقدمتهم الأئمة الأربعة على أن مدرك الركوع مُدركٌ للرَّكعة.
بعض الأئمة كالإمام البخاري -من السلف- والإمام الشوكاني -من الخلف الصالح- يرون –وما بينهما كثير- يرون أنَّ مدرك الركوع لا يعتد بتلك الركعة؛ لأنه قد فاته قراءة الركن ألا وهو الفاتحة.
وأرى أنَّ المذهب الأول مذهب الجمهور هو الصواب في هذه المسألة، وإن كنت -كما تعلمون إن شاء الله- لست جمهوريًّا؛ وإنما أنا أتبع الحق حيثما كان مع الكثير أو القليل؛ وذلك لأسباب منها -وهو أهمها-: أنه قد ثبت لديَّ الحديث الذي رواه أبو داوود في سننه بإسنادٍ غير إسناده، أنَّ من أتى الإمام وهو راكع؛ فليركع، وليعتد بالركعة. وإذا وجد الإمام ساجدًا فليسجد، ولا يعتد بالركعة، فأُخِذَ من هذا أن مدرك الركوع مدرك للركعة.
لكن حديث أبى داود بلا شك فيه ضعف ظاهر، وإن كان هذا الضعف ليس شديدًا؛ بل ولو كان شديدًا لأستغنينا عنه بإسنادين آخرين مدارهما على رجل من الأنصار، وأعني بإسنادين، باعتبار من أخرجهما، ولا أعني بإسنادين كل من المخرجين رواه بإسناد أولاً، ثم رواه آخر بإسناد ثان. لا.
وإنما أعني أن الإمام البيهقي -رحمه الله- روى في هذا الحديث الذي في سنن أبي داود [..] بإسناد قوي عن رجل من الأنصار من طريق عبد العزيز بن رُفيْع، عن رجل من الأنصار أن النَّبي صلَّى الله عليه وسلَّم قال، وذكر معنى الحديث الذى ذكرته لكم آنفًا.
علة هذا الإسناد في رواية البيهقي أننا لم نعلم أنَّ هذا الرجل الأنصاري أهو تابعي أم هو صحابي؟
وإن كان يتبادر إلى الذهن أنه صحابي؛ لأن الراوي عنه تابعي معروف؛ وهو: عبد العزيز بن رُفيْع؛ ولكن الإنصاف يقتضينا أنَّ هذا التلازم ليس ضروريًّا في الأسانيد؛ أي: لا يلزم من رواية تابعي عن رجل من الأنصار، أو رجل من المهاجرين، أن يكون هذا الرجل أو ذاك صحابيًا؛ لاحتمال أن يكون ابن صحابي من جهة، ولأنَّه قد وقفنا مرارًا وتكرارًا على بعض الأسانيد يرويه التابعي عن تابعي عن صحابي.
وذكر الحافظ بن حجر أنه بالاستقراء تبين أنه في بعض الأحاديث بين التابعي الأول والصحابي أربعة من التابعين آخرين! أي: خمسة تابعين على التسلسل، ثم يأتي بعد ذلك الصحابي؛ تابعي، عن تابعي، عن تابعي، عن تابعي، عن تابعي، عن الصحابي، فضلاً عن تابعي، عن تابعي، عن تابعي، عن تابعي، عن صحابي، فضلاً عن تابعي، عن تابعي، عن تابعي عن صحابي، وهكذا.
فحينما نجد مثل هذه الرواية: عبد العزيز بن رُفيْع تابعي، عن رجل من الأنصار؛ ترى هذا صحابي أم تابعي!؟ يحتمل!
ثم وجدنا -والحمد لله- أن هذا الاحتمال طاح وراح إلى حيث لا رجعة، فقد جاء في كتاب: "المسائل" لإسحاق بن منصور الْمَرْوَزِيّ، عن الإمام أحمد، وعن اسحاق بن راهويه، روى الْمَرْوَزِيُّ هذا باسناده الصَّحيح، عن عبد العزيز بن رُفيْع عن رجل من الأنصار من أصحاب النَّبي صلَّى الله عليه وسلَّم، هذا غطَّى الموضوع، وجعل الإسناد موصولاً بعد أن كان يحتمل أن يكون مرسلاً؛ وبذلك صح الحديث، وقامت الحجة.
يضاف إلى ذلك آثار عن كبار الصحابة؛ وعلى رأسهم أبو بكر الصديق، وآخرهم سنًّا عبد الله بن عمر بن الخطاب، كلهم قالوا: بأن مدرك الركوع مدركٌ للركعة؛ فاتفقت الآثار السلفية الصحيحة مع هذا الحديث الصحيح -والحمد لله-، وثبت بذلك أرجحية مذهب الجمهور على المخالفين، وإن كان بعض العاملين بالحديث إلى زمننا هذا لا يزالون يفتون بأن مدرك الركوع ليس مدركًا للركعة.
وأذكر أن أحد الغُماريين -وإن كان هو من أهل الأهواء ومن الصوفية، الذين لهم طرق انحرفوا بها عن السنة- ألَّف رسالة يؤكِّد فيها أن الصَّواب أن مدرك الركوع ليس مدركًا للركعة.
والواقع أنه هو شأنه في ذلك شأن بعض أهل الحديث في الهند فاتتهم هذه الرواية الصحيحة، التي لا تزال موجودة في ذاك المخطوط النادر العزيز في المكتبة الظاهرية، مخطوط من النوادر لأنه يعود تاريخ كتابته إلى العهد القريب من الإمامين: أحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه.
ولو أنهم وقفوا على هذه الرواية لانقلبت وجهة نظرهم من تأييد الرأي المخالف للجمهور، إلى تأييد رأي الجمهور في هذه المسألة.
وهم لا يخفى عليهم بعض تلك الآثار؛ ولكنهم يطبقون القاعدة التى ينبغي على المسلم أن يلتزمها؛ وهي: "أن الأثر إذا جاء مخالفًا للنص ولو بإجتهاد؛ فلا ينبغى أن نأخذ بالأثر"؛ أعني بالأثر هنا ما أشرت إليه آنفًا من الأثر عن أبي بكر، وعن ابن عمر، وبينهما جماعة آخرون كثيرون؛ كزيد بن ثابت، وعبد الله بن مسعود، وهم أربعة من الصحابة، وهم -كما ترون- من أكابر الصحابة، رأوا وصرَّحوا بأن مدرك الرُّكوع مُدرِكًا للرَّكعة.
فهم لم يأخذوا بهذه الآثار لتوهمهم أنها مخالفة لقوله عليه الصلاة والسلام: ((لاَ صَلاَةَ لِمَنْ لَمْ يَقْرَأْ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ)).
ونحن نرى أن هذا العموم الشامل لهذا الجزء لا يشمله؛ لما ذكرناه في غير هذه الجلسة أكثر من مرة؛ ولهذا الحديث الصحيح. وبذلك ينتهي الجواب عن هذا السؤال.
السَّائل:
إنَّ بعض الجماعات الإسلاميَّة التي تتخذ منهجها منهج السلف، قد يكون بعض المنتمين إليها قد أخطأ أو وقع في خلاف فقهي أو في تقديم الدعوة، وبعد ذلك فُصِلَ لاختلافه مع أميرهم أو رئيسهم، فهل هذا الفصل يبعده عن أصله في منهجه؟
الشيخ:
أما ما أسمعه -الآن- في هذا السؤال من أن يُفصَل المسلم عن الجماعة، والجماعة السلفية لمجرد أنه أخطأ في مسألة أو في أخرى؛ فما أرى هذا إلا من عدوى الأحزاب الأخرى؛ هذا الفصل هو من نظام بعض الأحزاب الإسلامية التى لا تتبنَّى المنهج السلفي منهجًا في الفقه والفهم الإسلامي.
وإنما هو حزب يغلب عليه ما يغلب على الأحزاب الأخرى من التكتل والتجمع على أساس دولة مصغرة، من خرج على طاعة رئيسها أُنذِرَ أولاً وثانيًا وثالثًا ربما؛ ثم حُكِمَ بفصله.
مثل هذا لا يجوز أن يتبناه جماعة ينتمون بحق إلى كتاب الله وإلى حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى منهج السلف الصالح.
مواضيع مماثلة
» تفريغ شريط: فتاوى جدة (32): اللهو المباح واللهو المحرم جزء {2}
» قد مضى في اللهو عمري
» فتاوى الحجاب واللباس والزينة
» ثالثاً : فتاوى في المسح على الخفين.
» فتاوى تتعلق بسجود السهو
» قد مضى في اللهو عمري
» فتاوى الحجاب واللباس والزينة
» ثالثاً : فتاوى في المسح على الخفين.
» فتاوى تتعلق بسجود السهو
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى