من صفحة 20ألى ص45 من كتاب. رفع الأستار لإبطال أدلة القائلين بفناء النار .محمد بن إسماعيل الأمير الصنعاني .العلامة المحدث محمد ناصر الدين الألباني
صفحة 1 من اصل 1
من صفحة 20ألى ص45 من كتاب. رفع الأستار لإبطال أدلة القائلين بفناء النار .محمد بن إسماعيل الأمير الصنعاني .العلامة المحدث محمد ناصر الدين الألباني
العلماء وعن التكلم فيهم لأن الله عفا عما أخطؤوا فيه فقال في آخر رسالته في تحريم الشطرنج في ( المجموع ) ( 32/239 ) ما نصه :
( وليس لأحد أن يتبع زلات العلماء كما ليس له أن يتكلم في أهل العلم والإيمان إلا بما هم له أهل فإن الله تعالى عفا عن المؤمنين عما أخطؤوا كما قال تعالى : { ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا } قال الله : قد فعلت . وأمرنا أن نتبع ما أنزل إلينا من ربنا ولا نتع من دونه أولياء وأمرنا أن لا نطيع مخلوقا في معصية الخالق ونستغفر لإخواننا الذين سبقونا بالإيمان فنقول : { ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان } .
وهذا أمر واجب على المسلمين في كل ما كان يشبه هذا من الأمور ونعظم أمره تعالى بالطاعة لله ورسوله ونرعى حقوق المسلمين لا سيما أهل العلم منهم كما أمر الله ورسوله ومن عدل عن هذه الطريقة فقد عدل عن اتباع الحجة إلى اتباع الهوى في التقليد وآذى المؤمنين والمؤمنات بغير ما اكتسبوا فهو من الظالمين . ومن عظم حرمات الله وأحسن إلى عباد الله كان من أولياء الله المتقين ) .
{ إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد } .
وإن مما يمنع توجيه الطعن في ابن تيمية لقوله بفناء النار علاوة على ما ذكرنا آنفا أن له قولا آخر في المسألة وهو عدم فنائها كما سبق بيانه بالنقل عنه . وإذا كنا لا نعلم أي القولين هو المتأخر فمن البدهي أن الطاعن لا بد له من الجزم بأنه هو الأول ودون هذا خرط القتاد وأما نحن فإن حسن الظن الذي أمرنا به يقتضينا بأن نقول : لعله القول الآخر لأنه موافق للإجماع الذي نقله هو نفسه فضلا عن غيره كما تقدم وقد يؤيده هذا أن ابن القيم نقله أيضا كما بق في قصيدته ( الكافية الشافية ) فالظاهر أنه مات على ذلك لأنها قرئت عليه في آخر حياته فقد ترجمه الحافظ ابن رجب الحنبلي في ( طبقاته ) وذكر في آخرها ما يشعرنا بذلك فقال : ( 2/448 ) :
( ولازمت مجالسه قبل موته أزيد من سنة وسمعت عليه قصيدته النونية الطويلة في السنة وأشياء من تصانيفه وغيرها ) .
أقول فإذا صح ظننا هذا فالحمد لله وإلا فأسوأ ما يمكن أن يقال : إنه خطأ مغفور لهما بإذن الله تعالى لأنه صدر عن اجتهاد صادق منهما ومعلوم أن المجتهد مأجور ولو أخطأ كما جاء في الحديث الصحيح : ( إذا حكم الحاكم فاجتهد فأصاب فله أجران وإذا اجتهد فأخطأ فله أجر واحد ) . متفق عليه .
وقد تقرر في الأصول أن الخطأ مغفور ولو في المسائل العلمية كما حققه شيخ الإسلام ابن تيمية في كثير من كتبه وفتاويه .
هذا بالإضافة إلى ما لهما من الجهاد والبلاء الحسن في الدعوة إلى العمل بالكتاب والسنة والرد على المبتدعة والفرق الضالة وتقديم الإسلام إلى المسلمين صافيا نقيا على منهج السلف الصالح وإن ما نراه اليوم في العالم الإسلامي من نهضة فكرية وعلمية ودعوة سنية سلفية فهو ثمرة من ثمار جهادهما وصبرهما جزاهما اله تعالى عن الإسلام والمسلمين خيرا .
ولذلك رأينا المصنف رحمه الله تعالى مع أنه لم يقصر في الرد عليهما فإنه لا يذكرهما إلا مقرونا بالإجلال والإكبار وبخاصة الشيخ ابن تيمية فإنه وصفه في أول الكتاب ب ( العلامة شيخ الإسلام ) ويذكره بهذا اللقب كثيرا ووصفه في مكان آخر ( ص 120 ) بتبحره في العلوم وسعة اطلاعه على أقوال السلف والخلف ) وصدق من قال : ( إنما يعرف الفضل لذوي الفضل أهل الفضل ) . أقول هذا لأن كثيرا من المقلدة المتعصبة تقزز نفوسهم من إطلاق لقب ( شيخ الإسلام ) على ابن تيمية رحمه الله تعالى حتى أن العلاء البخاري الحنفي المتعصب كفر من يلقبه به وقد رد عليه أحسن الرد الحافظ ابن ناصر الدين الدمشقي الشافعي في كتابه القيم ( الرد الوافر على من زعم بأن من سمى ابن تيمية ( شيخ الإسلام ) كافر ) . ذكر فيه نحو المائة من كبار العلماء المشهورين من مختلف المذاهب وكلهم يلقب ابن تيميه يلقبه : ( شيخ الإسلام ) . وقد قام بتحقيقه والتعليق عليها أخونا الأستاذ زهير الشاويش صاحب المكتب الإسلامي جزاه الله خير الجزاء على جهده القيم .
أقول هذا بيانا للحقيقة وإلا فأنا أعلم أن هذا اللقب وغيره مما هو مستعمل اليوم لم يكن معروفا عند السلف فالخير كله في الاتباع ولا سيما وقد صار مبتذلا في العصور المتأخرة بحيث أنهم يطلقونه نفاقا ورياء على من لا علم عنده بل هو ممن يصدق عليه المثل الشهير : لا في العير ولا في النفير ولعل من ألطاف الله تعالى بالشيخين رحمهما الله تعالى أننا لم نر أحدا - فيما أطلعنا - تبعهما على ذلك القول بالفناء فهذا شارح العقيدة الطحاوية مثلا فإنه مع كونه لا يكاد يخرج فيه عما ذهب إليه ابن تيمية رحمه الله تعالى فإنه ههنا ذكر أدلة هذا القول ثم ذكر أدلة القول الآخر وهي ملخصة من كلام ابن القيم ولم يرجح شيئا منهما ذكر ذلك تحت قول الطحاوي المتقدم : ( والجنة والنار مخلوقتان لا تفنيان أبدا ولا تبيدان ) .
وأما العلامة السفاريني فقد رأيته تعرض للموضوع في كتابه ( شرح الدرة المضية في عقد الفرق المرضية ) ونقل فيه طرفا من بحث ابن القيم ولكنه صرح بمخالفته فإنه ذكر بعض الآيات المستلزمة لدوام العذاب وحديث ذبح الموت المتقدم ثم قال ( 2/234 - 235 ) :
( فثبت بما ذكرنا من الآيات الصريحة والأخبار الصحيحة خلود أهل الدارين خلودا مؤبدا كل بما فيه من نعيم وعذاب أليم وعلى هذا إجماع أهل السنة والجماعة فأجمعوا أن عذاب الكفار لا ينقطع كما أن نعيم أهل الجنة لا ينقطع وقد ألف العلامة مرعي بن يوسف الكرمي الحنبلي رسالة سماها ( توقيف الفريقين على خلود أهل الدارين ) .
وهذا ما ذهب إليه الشيخ نعمان الآلوسي فإنه تعرض للمسألة في كتابه ( جلاء العينين في محاكمة الأحمدين ) ( ص 420 - 424 ) نقل فيه الأقوال السبعة في عذاب أهل النار وقال :
( وأما بداية النار ففيها قولان معروفان عن السلف والخلف والأصح عدم فنائها أيضا ) .
ثم قال في قول ابن تيمية :
( واعلم أن الإمام ابن القيم قدس الله تعالى روحه انتصر لهذا القول انتصارا عظيما ومال إليه ميلا جسيما وذكر خمسة وعشرين دليلا ثم رجع القهقرى وقال : إن قيل : إلى أين انتهى قدمك في هذه المسألة العظيمة ؟ قيل : إلى قوله تعالى { إن ربك فعال لما يريد } وإلى هنا انتهى قدم أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه فيها حيث ذكر دخول أهل الجنة وأهل النار وما يلقاه هؤلاء وهؤلاء قال : ثم يفعل لك بعد ذلك ما يشاء . ثم قال : وما ذكرناه في هذه المسألة من صواب فمن الله سبحانه وهو المنان وما كان من خطأ فهو مني ومن الشيطان والله ورسوله بريئان منه ) .
قلت : وقوله في ابن القيم : ( ثم رجع القهقرى وقال . . . ) نظر عندي لأنه ليس صريحا في ذلك وغاية ما يمكن أن يؤخذ منه أنه لم يجزم بما دندن حوله من الانتصار للقول بفناء النار ومناقشة أدلة المخالفين ورده عليها مما سترى الرد عليه فيها في الكتاب أن شاء الله تعالى ولكن ذلك لا ينفي ميله إلى ترجيحه إياه وإلا كانت دندنته { كالتي نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثا } وهذا مما لا يليق أن يقال في مثله كما لا يخفى ويؤيد هذا أن خاتمته للبحث في ( شفاء العليل ) التي أشرت إليها آنفا أقوى في الدلالة على ما ذكرت فإنه قال ما خلاصته ( ص 264 ) :
( وأنا في هذه المسألة على قول أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه فإنه ذكر دخول أهل الجنة . . . والقول بأن النار وعذابها دائم بدوام الله خبر عن الله بما يفعله فإن لم يكن مطابقا لخبره عن نفسه بذلك وإلا كان قولا عليه بغير علم والنصوص لا تفهم ذلك . والله أعلم ) .
قلت : فقوله : ( والنصوص لا تفهم ذلك ) صريح منه بأنه لا يختار القول ببقاء النار فهو إذن يميل إلى القول بفنائها غير أنه لا يقطع بذلك لأنه يشعر أنه ليس لديه دليل قاطع فيه وإنما هو فهمه واستنباطه ولذلك ترك فيها مجالا للأخذ والرد كما هو شأن العلماء المنصفين الذين لا يفرضون رأيهم على الآخرين لا سيما في مثل هذا الفهم الذي أجمع العلماء على خلافه ومما يؤكد ذلك قوله في خاتمة بحثه في ( الصواعق ) :
( . . . فتأمل هذا الوجه حق التأمل وأعطه حقه من النظر واجمع بين ذلك وبين معاني أسمائه وصفاته وما دل عليه كلام الله وكلام رسوله وما قاله الصحابة ومن بعدهم ولا تبادر إلى القول بلا علم ولا إلى الإنكار فإن أسفر لك صبح الصواب وإلا فرد الحكم إلى ما رده الله إليه بقوله { إن ربك فعال لما يريد } وتمسك بقول علي ابن أبي طالب رضي الله عنه وقد ذكر دخول أهل الجنة الجنة وأهل النار النار ووصف حالهما ثم قال : ويفعل الله بعد ذلك ما يشاء ) .
ولكني ألاحظ في هذا النص أنه يأمر فيه من لم يتبين الصواب أن ينهي إلى قوله تعالى : { إن ربك فعال لما يريد } وقول علي المذكور وذلك ما انتهى هو إليه في خاتمة ( الحادي ) .
فهل يعني ذلك أن ابن القيم نفسه بعد تلك المناقشة الطويلة لم يتبين له الصواب فانتهى إلى ما أمر به من لم يتبين له الصواب أم هو التردد في مثل هذه المسألة الخطيرة التي كان الأولى به أن يقف فيها حيث وقف العلماء ولا يدخل نفسه في مضايق لا قبل للعقل البشري أن يدخلها ؟
ويؤسفني والله جدا قوله المتقدم : ( والنصوص لا تفهم ذلك ) كيف يتجرأ على مثل هذا القول والنصوص قاطعة في ذلك من الكتاب والسنة كما تقدم فلا جرم أجمعت على مدلولها الأمة . فالحق والحق أقول : لقد أصيب ابن القيم في هذه المسألة مع الأسف الشديد بآفة التأويل التي ابتلي بها أهل البدع والأهواء في مقالتهم التي خرجوا بها عن نصوص الكتاب والسنة فرد عليهم ذلك هو وشيخه ابن تيمية أحسن الرد في كتبهما الكثيرة المعروفة فما باله وقع في مثل ما وقعوا من التأويل .
ولقد كان أوله في تأويلهما قول عمر على انقطاعه : ( لو لبث أهل النار عدد رمل عالج لكان لهم يوم يخرجون فيه ) . فاستدلا به على الفناء المزعوم وهو صريح في الخروج من النار وهما لا يقولان به وهكذا تأولوا كثيرا من الآثار بالفناء وهي في الخروج كما ستراه مفصلا في الكتاب بإذن الله تعالى .
ثم قال الشيخ نعمان الآلوسي في ( محاكمة الأحمدين ) ص ( 424 ) :
( ونقل الوالد قدس الله تعالى روحه في ( تفسيره ) عن الفهامة ابن الجوزي : أنه ضعف بعض الآثار الواردة في ذلك . ( ثم ذكر خبر ابن عمرو الآتي ( ص 81 ) ثم قال : وأول البعض أيضا بعضها قال :
( وأنت تعلم أن خلود الكفار مما أجمع عليه المسلمون لا عبرة بالمخالف والقواطع أكثر من أن تحصى ولا يقاوم واحدا منها كثير من هذه الأخبار ) .
قلت : ولو كان العلم بالتمني لتمنيت أن يكون ما عزاه العلامة الشيخ جمال الدين القاسمي لابن القيم صحيحا ولكنها من أوهام العلماء فقد قال في تفسيره ( محاسن التأويل ) ( 6/2503 - 2504 ) :
( وقد بسط البحث وجود الإمام ابن القيم في كتابه ( حادي الأرواح ) ومع كونه انتصر لهذا القول انتصارا عظيما وذكر له خمسة وعشرين دليلا لم يصححه حيث قال : وأما أبدية النار ففيها قولان معروفان عن السلف والخلف والأصح عدم فنائها . أيضا . انتهى ) .
فقوله : ( وأما أبدية النار . . . ) إلخ . إنما هو من كلام الشيخ نعمان الآلوسي كما تقدم نقله عنه توهمه الشيخ القاسمي - على ما كان عليه من الوعي - أنه من كلام ابن القيم وبناء عليه قال : ( لم يصححه ) فهو وهم آخر نشأ من الوهم الأول فسبحان من لا يسهو ولا يهم .
هذا - ثم أن ابن القيم - عفا الله عنا وعنه لم يقنع بميله إلى القول بفناء نار الكفار وتخلصهم به من العذاب الأبدي في تلك الدار حتى طمع لهم في رحمة الله أن ينزلهم منازل الأبرار جنات تجري من تحتها الأنهار ذلك ما يظهر لنا من بعض الأدلة التي ساقها تأييدا للقول بفناء النار وهو مما نبه عليه المؤلف رحمه الله معقبا على قول ابن القيم : ( ثم تفنى ويزول عذابها ) فقال ( ص 64 ) :
( يريد : ويدخل الله من كان فيها من الكفار الجنة كما ستعرفه من الأدلة التي ذكرها ) .
وأعاد هذا المعنى في مكان آخر ( ص 120 ) .
وإن مما لا شك فيه أن هذا الذي استظهرناه هو في الخطورة والإغراق كقوله بالفناء أن لم يكن أخطر منه لأنه كالثمرة له ولأنه لا قائل به مطلقا من المسلمين بل هو من المعلوم من الدين بالضرورة للأدلة القاطعة بأن الجنة محرمة على الكفار كقوله تعالى : { إنه من يشرك بالله فقد حرم الله عليه الجنة ومأواه النار } [ المائدة/72 ] وقوله : { إن الذين كذبوا بآياتنا واستكبروا عنها لا تفتح لهم أبواب السماء ولا يدخلون الجنة حتى يلج الجمل في سم الخياط } [ الأعراف/40 ] وكقوله صلى الله عليه وسلم الذي أمر الذي أمر بالمناداة به يوم حنين : ( إنه لا يدخل الجنة إلا نفس مسلمة ) . أخرجه البخاري ومسلم ( 01/74 ) عن أبي هريرة وله مثله عن عمر بلفظ ( . . . إلا المؤمنون ) وله شواهد فانظر ( إرواء الغليل ) ( 963 ) أن شئت . ويكفي في ذلك قوله تعالى : { إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء } [ النساء/48 ] .
فإننا نعلم بالضرورة أن من دخل الجنة فقد غفر الله له وعلى العكس .
ولذلك قال شيخ الإسلام ابن تيمية في بحث له في ( المجموع ) ( 14/476 - 477 ) .
( ولا يدخل الجنة إلا أهل التوحيد وهم أهل { لا إله إلا الله } ) . ثم قال : ( ولكن لا يعذب الله أحدا حتى يبعث إليه رسولا وكما أنه لا يعذبه فلا يدخل الجنة إلا نفس مسلمة مؤمنة ولا يدخلها مشرك ولا مستكبر عن عبادة ربه ) .
قلت : ومثل هذا مما لا يخفى على ابن القيم بل هو ممن صرح بذلك في غير ما موضع من كتبه فهو يقول مثلا في ( الجواب الكافي لمن سأل عن الدواء الشافي ) . ( ص 89 ) :
( إن الله حرم الجنة على كل مشرك ) .
بل إنه لما حكى في ( الحادي ) ( 2/169 - 170 ) قول من يقولك أن أهل النار يعذبون فيها إلى وقت محدود ثم يخرجون منها ويخلفهم آخرون أبطله بعدة آيات ساقها كلها صريحة في عدم خروج أهل النار منها وكان آخرها آية الأعراف المتقدمة : { ولا يدخلون الجنة حتى يلج الجمل في سم الخياط } . قال عقبها :
( وهذا أبلغ ما يكون في الإخبار عن استحالة دخولهم الجنة ) .
وحينئذ كيف يصح ما سبق من استظهارنا أن ابن القيم يميل إلى القول بأن الكفار يدخلون الجنة بعد العذاب ؟
والذي يدور في ذهني من الجواب على وجهين :
الأول : إما أن يقال : أن صريح كلامه ينافي ما وصل إليه باستنباطه فهو الذي ينبغي الاعتماد عليه ونسبته إليه وهو الأحب إلي .
والآخر : أن يجمع بين الصريح والمستنبط فيقال : الصريح يريد به دخول الكافر الجنة بعد خروجه من النار فهذا هو المستحيل وأما المستنبط فإنما يريد به دخول الجنة بعد فناء النار
وهذا الجمع وإن بدا غريبا فليس بأغرب من تفريقه بين انتهاء عذاب الكفار بخروجهم من النار فهذا مستحيل أيضا وفقا لجميع العلماء وبين انتهاء عذابهم بفناء النار فهذا أمر جائز بل واقع عنده ويجادل فيه ويصول ويجول ويتأول النصوص الصريحة المخالفة له مما لا نعرفه عنه وإنما عن أهل البدع والأهواء الذين قضى حياته هو وشيخه في الرد عليهم والكشف عن ضلالتهم .
وبغير هذا الجمع لا يمكن أن يفهم كلامه في رده على مخالفيه فانظر إلى قوله في ( الحادي ) ( 2/185 ) :
( وأما الطريق الثاني وهو دلالة القرآن على بقاء النار وعدم فنائها فإن في القرآن دليل واحد يدل على ذلك ؟ نعم الذي دل عليه القرآن : أن الكفار خالدين في النار إلى الأبد وأنهم غير خارجين منها و. . . و. . . و. . . وليس هذا مورد النزاع وإنما النزاع في أمر آخر وهو أنه هل النار أبدية أو مما كتب عليه الفناء . قال :
( وأما كون الكفار لا يخرجون منها و{ لا يفتر عنهم } من عذابها { ولا يقضى عليهم فيموتوا } { ولا يدخلون الجنة حتى يلج الجميل في سم الخياط } فلم يختلف في ذلك الصحابة والتابعون ولا أهل السنة . . .
فهذه النصوص وأمثالها تقتضي خلودهم في دار العذاب ما دامت باقية ولا يخرجون منها مع بقائها البتة )
فتأمل نقله اتفاق الصحابة ومن بعدهم على أنهم لا يدخلون الجنة كما في الآية الكريمة فإنه لا يتفق مع ميله إلى أنهم يدخلون الجنة يوما ما إلا يحمل الدخول المنفي على دخول مقرون بخروجهم نم النار والدخول المثبت على دخولهم بعد فناء النار كما ذكرنا وهذا المعنى يكاد يكون صريحا في سياق كلامه على هذه الطريق في كتابه ( شفاء العليل ) فإنه قال بعد الآيات النافية المتقدمة بما فيها الآية النافية لدخولهم الجنة قال ( ص 260 ) :
( وهذه الطريق لا تدل على ما ذكروه وإنما يدل على أنها ما دامت باقية فهم فيها فأين فيها ما يدل على عدم فنائها ؟ ) .
قلت : فكأنه يريد أن يقول : وأين الدليل أيضا في الآية المذكورة على نفي دخولهم الجنة بعد فناء النار ؟
فيا سبحان الله ما يفعل التأويل بأهله وإلى حضيض سحيق يهوون به فيه وإلا فقل لي بربك : كيف يمكن لابن القيم أن ينكر أبدية النار ببقاء أهلها فيها وعدم دخولهم الجنة مطلقا لولا تشبثه بذاك التأويل البشع وهو المعروف بمحاربته لعلماء الكلام من المعتزلة والأشاعرة لتأولهم كثيرا من آيات وأحاديث الصفات كاستواء الله على عرشه ونزوله إلى السماء ومجيئه يوم القيامة وغير ذلك من التأويل الذي هو أيسر من تأويله فقد قال به كثير من المتأخرين خلافا للسلف وأما تأويله فلم يقل به أحد منهم لا من السلف ولا من الخلف إلا تقليدا لشيخه ولقد كان من الواجب عليه أن يلتزم بقول إمامه الذي قال ناصحا لكل سلفي :
( إياك أن تتكلم في مسألة ليس لك فيها إمام ) .
وكان في المحنة يقول :
( كيف أقول ما لم يقل ؟ ) .
وإن مما يتنبه له الباحث المتأمل أن يرى موقفين متباينين أشد التباين لابن تيمية رحمه الله تعالى فإنه في الوقت الذي مال إلى القول بفناء النار وانتصر وله ابن القيم ذاك الانتصار الغريب المتكلف نرى ابن القيم نفسه قد عقد في ( الحادي ) ستة أبواب في مسألة أخرى هي أهون من هذه بكثير من حيث موضوعها ومن حيث اختلاف العلماء فيها ألا وهي :
جنة آدم عليه السلام التي أهبط منها هل هي جنة الخلد التي وعد بها المتقون أم غيرها ؟ على قولين للعلماء أطال النفس فيها جدا ( ص 43 - 80 ) وذكر حجة كل منهما وما له وما عليه وعلى الرغم من أن من القائلين بأنها ليست جنة الخلد أبا حنيفة وأصحابه وابن عيينة كما حكاه ابن القيم ومال إليه هو في آخر الباب الرابع ( ص 68 - 69 ) : على الرغم من ذلك نرى شيخ الإسلام ابن تيمية يرده بكل صراحة وشدة يقول في بعض فتاويه :
( والجنة التي أسكنها آدم وزوجته عند سلف الأمة وأهل السنة والجماعة هي جنة الخلد ومن قال إنها في الأرض بأرض الهند أو بأرض جدة أو غير ذلك فهو من المتفلسفة والملحدين أو من إخوانهم المبتدعين فإن هذا يقوله من يقوله من المتفلسفة والمعتزلة ) .
فأقول : أليس كان الحق بمثل هذا الرد الأشد من قال بفناء النار أيا كان القائل لأنه لم يقل به أحد حتى ولا المعتزلة ولأن أدلته وهمية لا حقيقة لها كما سيفصل المؤلف القول في ذلك تفصيلا ويبين بطلانها تبيانا بحيث لا يدع شبهة إلا أطاح بها ولا متأثرا بها إلا أعاده إلى الصراط المستقيم يمشي عليه سويا .
غير أن هناك شبهة أخرى أوردها ابن القيم رحمه الله لم أر المؤلف جزاه الله خيرا تعرض لها فلا بد لي أن أذكرها لأرد عليها بما يبدوا لي راجيا منه تعالى أن يلهمني الصواب ويعصمني من الخطأ . قال في ( الحادي ) ( 2/221 ) :
( لو جاء الخبر منه سبحانه صريحا بأن عذاب النار لا انتهاء له وأنه أبدي لا انقطاع له لكان ذلك وعيدا منه سبحانه والله تعالى لا يخلف وعده وأما الوعيد فمذهب أهل السنة كلهم : أن إخلافه كرم وعفو وتجاوز بمدح الرب تبارك وتعالى عليه فإنه حق له إن شاء تركه وإن شاء استوفاه والكريم لا يستوفي حقه فيكف بأكرم الأكرمين وقد صرح سبحانه في كتابه في غير موضع بأنه لا يخلف وعده ولم يقل في موضع واحد لا يخلف وعيده وقد روى أبو يعلى . . . . عن أنس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( من وعده الله على عمل ثوابا فهو منجزه ومن أوعده على عمل عقابا فهو فيه بالخيار ) .
وأقول وبالله المستعان :
أولا : قد جاءت الأخبار كتابا وسنة بأبدية النار وعذابها كما تقدم فلا داعي لإعادة وما تشبث به ابن القيم رحمه الله في خلاف ذلك مردود بل باطل كما يأتي شرحه من المؤلف رحمه الله تعالى .
ثانيا : ما ذكره : أن مذهب أهل السنة كلهم جواز إخلاف الله لوعيده لا أعلمه بهذا الإطلاق وقد بحث شيخ الإسلام الخلاف المعروف ين المرجئة والمعتزلة في الوعد والوعيد في مناسبات شتى فلم يذكر هذا بل صرح بخلافه في بعض المواطن فإنه بعد أن ذكر حديث الشفاعة وغيره في دخول بعض الموحدين النار وخروجهم منها قال : ( 16/196 ) :
( وفيه رد على من يقول : ( يجوز أن لا يدخل الله من أهل التوحيد أحدا النار ) كما يقوله طائفة من المرجئة والشيعة . . . ) .
فإذا لم يجز هذا الإخلاف في حق الموحدين فكيف يجوز الإخلاف الأكبر الذي هو في حق المشركين ؟
ثالثا : ( ولم يقل في موضع واحد : لا يخلف وعيده ) .
فأقول : قد فاته - عفا الله عنا وعنه - قوله تعالى في ( ق : 27 - 29 ) { قال قرينة ربنا ما أطغيته ولكن كان في ضلال بعيد . قال لا تختصموا لذي وقد قدمت إليكم بالوعيد . ما يبدل القول لدي وما أنا بظلام للعبيد } .
ولهذا قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله عقبه ( 14/498 ) :
( وهذا يقتضي أنه صادق في وعيده أيضا وأن وعيده لا يبدل وهذا مما احتج به القائلون بأن فساق الملة لا يخرجون من النار وقد تكلمنا عليهم في غير هذا الموضع لكن هذه الآية يضعف جواب من يقول : أن إخلاف الوعيد جائز فإن قوله : { ما يبدل القول لدي } بعد قوله : { وقد قدمت إليكم بالوعيد } دليل على أن وعيده لا يبدل كما لا يبدل وعده ) .
رابعا : حديث أنس المذكور إسناده ضعيف كما كنت بنيته في ( الأحاديث الصحيحة ) ( 2463 ) وعلى فرض ثبوته فهو بمعنى قوله تعالى : { إن الله لا يفغر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء } وما في معناها من الأحاديث أي أن الحديث في الموحدين وليس في المشركين فهؤلاء مستثنون من المغفرة بهذه الآية وغيرها .
وإلى هذا أشار العلامة المرتضى اليماني بقوله في ( إيثار الحق على الخلق ) ( ص 389 ) : ( والحق أن الله لا يخلف الوعيد إلا أن يكون استثنى فيه ) . وهذا مما يشعر به قول ابن تيمية نفسه في ( مجموع الفتاوى ) ( 24/375 ) فإنه قال :
( وأحاديث الوعيد يذكر فيها السبب وقد يتخلف موجبه لموانع تدفع ذلك إما بتوبة مقبولة وإما بحسنات ماحية وإما بمصائب مكفرة وإما بشفاعة شفيع مطاع وإما بفضل الله ورحمته ومغفرته فإنه { لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء } .
فهذا منه رحمه الله كالتفصيل لكلام ابن القيم وهو يقيده ويبين أن الإخلاف للوعيد إنما يكون لمانع من تلك الموانع وليس منها الشرك بداهة فإن الله لا يغفره .
فتأمل في هذا يتبين لك خطأ ابن القيم في بعض مما يدعيه ويعزوه لأهل السنة دون قيد أو شرط فيكون ذلك مثار شبهة عنده تحمله على أن يتأول النصوص القاطعة الدلالة فيخرج بذلك عما عليه أهل السنة والجماعة فيقع في الخطأ من حيث لا يدري ولا يشعر .
وإن من العجيب حقا أن ينفرد بالاغترار بكلامه في هذه المسألة الخطيرة العلامة السيد محمد رشيد رضا رحمه الله تعالى لما تعلم عنه من استقلاله في الفهم وبعده عن الجمود والتقليد فإنه مع ذلك تابعه عليه دون كل من وقفنا على كلامه من المحققين الذين وقفوا عليه ولم يتابعوه أمثال الآلوسي أبا وابنا وغيرهما ممن سبق ذكره فقد نقل السيد رشيد كلام ابن القيم على طوله من ( حادي الأرواح ) في تفسير سورة ( الأنعام ) ( ج 8 ص 69 - 99 ) تحت ( فصل في الخلاف في أبدية النار وعذابها ) وختمه مفصحا عن إعجابه به بقوله :
( وإنما أوردناه بنصه على طوله لما تضمنه من الحقائق التي نوهنا بها ولأمر آخر أهم وهو أننا نعلم أن أقوى شبهات الناس من جميع الأمم على الدين قول أهل كل دين من الأديان المشهورة أنهم هم الناجون وحدهم وأكثر البشر يعذبون عذابا شديدا دائما لا ينتهي أبدا بل تمر ألوف الألوف المكررة من الأحقاب والقرون ولا يزداد إلا شدة وقوة وامتدادا مع قولهم ولا سيما المسلمين منهم : أن الله تعالى أرحم الراحمين وإن رحمة الأم العطوف الرؤوم بولدها الوحيد ليست إلا جزاءا صغيرا من رحمة الله التي وسعت كل شيء .
وهذا البحث جدير بأن يزيل شبهة هؤلاء فيرجع المستعدون منهم إلى دين الله تعالى مذعنين لأمره ونهيه راجين رحمته خائفين عقابه الذي تقتضيه حكمته لأنهم لا يعلمون قدره ) .
قلت هذا الكلام خيال لا حقيقة له في الواقع لأن الأصل في هذه المسألة وغيرها من المسائل الاعتقادية الغيبية إنما هو الإيمان بما جاءنا عن الرحمن الرحيم العليم الحكيم كما قال في القرآن الكريم : { هدى للمتقين . الذين يؤمنون بالغيب } .
وهو الإيمان بكل ما غاب عن عقلك فمن لم يؤمن بما أخبر به تعالى من خلود الكافرين في النار أبد العابدين لأن عقله لم يقبله فلن يؤمن بعقاب يبلغ مئات السنين أخبر به رب العالمين في مثل آية { لابثين فيها أحقابا } ولو على افتراض أن له أمد منتهيا ( لا يعلمون قدره ) إذ أن لبثهم هذه المدة الطويلة التي تزيد على مدة عمرهم الذي قضوه كافرين أضعافا مضاعفة فلو أراد أحد أن يقنعهم بها وأنها عدل من الله فلن يصل إلى نتيجة معهم أبدا اللهم إلا من طريق الإيمان بالله ورسوله .
وإذا كان الأمر كذلك فمن العبث بل من الضلال أن يحاول أحد إقناع المشركين في أصل الدين ببعض ما جاء فيه من العقائد من طريق العقل المجرد عن الإيمان فإن هذا مع كونه لا يثمر معهم إلا الخسران فإنه ليس من سبيل المؤمنين بل هو سبيل المتأثرين بالفلسفة وعلم الكلام الذي حملهم إلى تأول آيات وأحاديث الصفات وتفسيرها بما يتناسب مع عقولهم وأهواء أمثالهم من ضعفاء الإيمان وربما فعل ذلك بعضهم لإقناع الآخرين وإن كان هو في قرارة نفسه لا يؤمن بذلك التأويل فهل يمكن أن يكون كلام السيد رشيد رضا من هذا القبيل بغية إرشاد من ضل عن سواء السبيل ؟
فقد كنت لقيت رجلا فاضلا في بعض أسفاري إلى المغرب منذ بعض سنين يظهر أنه سلفي العقيدة فزرته في داره .
ودار البحث في الدعوة السلفية هناك وإذا به يصرح بأنه لا يرى مانعا في سبيل تقريب الناس إليها من تأويل آيات الصفات وأحاديثها لإقناع المخالفين
فقلت له : عجبا كيف يمكن أن يكون هذا ؟ إذ كيف تقدم إليهم معنى للنص أنت تؤمن بخلافه أولا ثم كيف تكون قد دعوته إلى مذهبك السلفي وقد قدمت إليه المعني الخلفي ؟ أن أخشى ما أخشاه أن يكون هذا من باب قول من قال : ( وداوني بالتي كانت هي الداء وختاما أقول : لقد خرجت من دراستي لهذه الرسالة النافعة للأمير الصنعاني رحمه الله تعالى بالعبر الآتية :
الأولى : أنني ازددت إيمانا ويقينا بالقول المأثور عن جمع من الأئمة : ( ما منا من أحد إلا رد ورد عليه إلا النبي صلى الله عليه وسلم ) . فهذا شيخ الإسلام ابن تيمية زلت به القدم فقال قولا لم يسبق إليه ولا قام الدليل عليه ومن هنا قالوا : ( زلة العالم زلة العالم ) فلو أننا كنا مبتلين بتقليده كما ابتلي كل مقلد بتقليد إمامه لزللنا بزلته ولذلك قالوا : ( الحق لا يعرف بالرجل اعرف الحق تعرف الرجال ) .
فالحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله .
الثانية : بطلان الخرافة التي يطلقها اليوم كثير من الكتاب الإسلاميين المعاصرين وفيهم بعض من يجلون شيخ الإسلام ابن تيمية : أن الخلاف في الفروع وليس في الأصول .
وقد يسارع بعض الجاحدين لعلم شيخ الإسلام وفضله الحاقدين عليه لرده على أهل الأهواء والمبتدعة المبغضين له لإخلاصه في الدعوة لاتباع الكتاب والسنة فيقول : إنما الخلاف في الأصول من ابن تيمية وأمثاله المخالفين للجمهور والمثال أمامك .
فأقول : كذبت والله فإن الخلاف المذموم إنما يكون من المصرين عليه بعدما تبين لهم الحق كما في قوله تعالى : { ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى ونصله جهنم وساءت مصيرا } .
والشيخ رحمه الله لم يعرف يوما بالإصرار على الخطأ مهما كان نوعه بدليل رجوعه عن كثير من آرائه التي كان عليها بعدما تبين له الحق وقد ذكرنا فيما سبق نماذج منها وأما خلافه في هذه المسألة فهي زلة منه بلا شك يغفرها الله له إن شاء الله تعالى كفاه جهاده في سبيل الله إلى آخر رمق من حياته حتى توفي في سجن دمشق مظلوما بعيدا عن أهله وتلامذته وكتبه ولغير ذلك من الأسباب التي سبق التحدث عنها .
والخلاف المذموم حقا : إنما هو من أولئك المقلدين الذين يصرون على التدين بالتقليد والإعراض عن الاهتداء بهدي رسول الله صلى الله عليه وسلم مباشرة والإخلاص له في اتباعه وحده دون سواه الذي هو من لوازم الشهادة له بأنه رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد أمرنا بطاعته استقلالا لا يشاركه في ذلك أحد من البشر في غير ما آية من آيات الله تبارك وتعالى فأي خلاف شر من هذا الذي عليه المقلد هذا الذي يظل { يسمع آيات الله تتلى عليه ثم يصر مستكبرا كأن لم يسمعها فبشرها بعذاب أليم } [ الجاثية/8 ] .
فالخلاف حقيقة واقعة - مع الأسف - أصولا وفروعا فلا يجوز تجاهلها أو الرضا بها وإنما يجب على أهل العلم أن يحاولوا في كل قطر ومصر تقليله قدر الاستطاعة ولا سبيل إلى ذلك إلا بشيء واحد وهو تحكيم الكتاب والسنة في كل خلاف كما هو صريح قوله تعالى : { فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلا } .
الثالثة : لقد وجدت في هذه الدراسة مثلا جديدا يضاف إلى الأمثلة العديدة التي كنت ولا أزال أشير إليها في كتابي ( سلسلة الأحاديث الضعيفة والموضوعة وأثرها الشيء في الأمة ) نصحا وتحذيرا لأن من آثارها السيئة أنها تصرف كثيرا من العلماء والفقهاء فضلا عن غيرهم عن تبني الحكم الصحيح فيما هم فيه مختلفون من العقائد والأحكام وقد تكون معارضته لنص أو نصوص في الكتاب والسنة الصحيحة فقد وجدت أن الذي فتح لابن تيمية وابن القيم باب التورط في القول بفناء النار إنما هو بعض الآثار المروية عن بعض الصحابة والأحاديث المرفوعة جلها لا تصح أسانيدها وعمدتها منها وأبرزها أثر عمر رضي الله عنه : ( لو لبث أهل النار في النار قدر رمل عالج لكان لهم يوم يخرجون فيه ) وإن حاولا تقوية إسناده بتكلف ظاهر لمخالفة ذلك المقرر في علم مصطلح الحديث وقد بينه المؤلف رحمه الله بيانا شافيا لكنه قد تابع ابن القيم في السكوت عن أسانيد سائرها فاشترك معه في إيهام القراء ثبوتها ولا سيما وفي بعضها ما هو موضوع كحديث أنس وحديث أبي أمامة ( ص 82 ) وحديث جابر ( ص 84 ) وحديث أبي أمامة الآخر ( ص 138 ) .
إلى غير ذلك من الروايات الواهية كحديث أبي هريرة ( ص 115 ) وزاد المؤلف عليها أحاديث أخرى لكنها لم تبلغ مرتبة الوضع مع كونها لا علاقة لها مباشرة بالرد كحديث ابن مسعود وغيره ( ص 70 ) وحديث الجهني ( ص 103 ) وحديث أبي الدرداء ( ص 134 ) وغيرها مما قد يكون فيها ما هو صحيح ثابت لا يتميز عند القارئ بعضها من بعض لدخولها كلها في دائرة المسكوت عنه
من أجل ذلك رأيت من واجبي أن أبين في التعليق مراتب تلك الأحاديث وأميز صحيحها من سقيمها وضعيفها من موضوعها ليكون القراء الكرام على هدى من أمرها راجيا أن يشاركوني في هذه العبرة وأن تكون حافزا لهم على أن يتذكروا معي حقيقة علمية منهجية هامة طالما أهمل القيام بها جماهير العلماء والكتاب قديما وحديثا ولم يقم بحقها سوى أفراد منهم قليلين جدا ألا وهي :
أنه يجب على كل باحث أو كاتب في موضوع شرعي يقوم على الاستدلال بعض الأحاديث المروية عنه صلى الله عليه وسلم .
أن يضع تلك الأحاديث بين يديه ويجري عليها تحقيقا دقيقا لمعرفة درجتها صحة وضعفا فما كان منها صحيحا احتفظ به واعتمده .
وما كان ضعيفا نظر فإن كان شديد الضعف أهمله مطلقا وتركه وإلا احتفظ به كشاهد مع التنبيه على ذلك ثم يتجه بعد هذه التصفية إلى البحث الذي هو في صدده فيحرره ويستدل له بما صح من الأحاديث ويتفقه فيها .
واعلم يا أخي المسلم أن كل من لم ينهج هذا النهج العلمي الصحيح في بحثه فلن يصل إلى الصواب الذي ينشده إلا رمية من غير رام بل هو على الغالب ينتهي الأمر به إلى انحرافات خطيرة لا ينجيه من الوقوع فيها أنهم كانوا غير قاصدين لها ما دام أنهم لا يسلكوا السبيل التي تحفظهم من ذلك وقد قيل :
ترجو النجاة ولم تسلك مسالكها إن السفينة لا تجري على اليبس
ولعله مما لا خفاء به أن من لم ينهج هذا النهج العلمي وأهمله فإنه معرض لأن يؤاخذه ربه لأنه قضى ما لا علم له به وقد قال تعالى في كتابه : { ولا تقف ما ليس لك به علم إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسؤولا } .
وقال صلى الله عليه وسلم في حديث ( قاضيان في النار ) : ( . . . ورجل قضى للناس على جهل فهو في النار ) .
رواه أصحاب السنن وغيره وهو مخرج في ( إرواء الغليل ) برقم ( 2614 ) .
وهذا بخلاف ما لو تبنى هذا المنهج في بحثه وضم إليه - طبعا - مما لا بد من المعرفة باللغة وأصول الفقه وغيره فهو مأجور ولو أخطأ لقوله صلى الله عليه وسلم :
( إذا حكم الحاكم ثم أصاب فله أجران وإذا حكم فاجتهد ثم أخطأ فله أجر واحد ) .
أخرجه الشيخان وغيرهما وهو مخرج في ( الإرواء ) برقم ( 2598 ) .
وأنا حين أذكر بهذا الواجب أعلم _ والأسف يملأ قلبي - أنه لا يستطيع القيامة به إذا القليل جدا من العلماء المستقلين لانصراف الجماهير منهم عن دراسة أصول الحديث وتراجم رواته وتاريخهم الأمر الذي لا بد منه لكل من يريد التمكن من تمييز الحديث الصحيح من الضعيف بنفسه مع التوسع في تتبع طرق الحديث وشواهده من مختلف المصادر الحديثية المطبوعة منها والمخطوطة مقرونا بالصبر والأناة وعدم الاستعجال في إصدار الأحكام كما يفعل بعض الناشئة اليوم .
غير أن هذا لا يعني إعفاءهم من واجب الاستعانة على التمييز بأهل العلم بذلك والمتخصصين فيه كما يستعين الجاهل بالفقه مثلا بالفقهاء - ولا أقول المتفقهة - فيسألهم عن كل ما نزل به أو ما كان بحاجة إلى معرفته إعمالا لقول ربه : { فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون } وتجاوبا مع حديث نبيه : ( ألا سألوا حين جهلوا فإنما شفاء العي السؤال ) .
رواه أبو داود وغيره وهو مخرج في ( صحيح أبي داود ) ( 364 ) .
وذلك كله يكون إما بسؤالهم مباشرة وجها لوجه إن تيسر وإما بالرجوع إلى كتبهم وهو متيسر والحمد لله وقد كنت ذكرت طائفة من الكتب الحديثية التي تساعد الباحث على القيام بهذا الواجب في مقدمة ( سلسلة الأحاديث الضعيفة ) فليرجع إليه من شاء .
هذا وعلاوة على تخريج أحاديث الرسالة وتمييز صحيحها من ضعيفها فقد قمت بتعليقات أخرى مفيدة إن شاء الله تعالى وترجمت لبعض الأعلام كما خرجت كل الآيات الكريمة الواردة فيها واجتهدت في تصحيح بعض الأخطاء التي وقعت فيها وإملاء الفراغات التي نتجت من تسلط الأرضة على نسختها حتى ذهب منها بعض الألفاظ إما بالرجوع إلى الأصل الذي نقل عنه المصنف وإما بالنظر في السباق والسياق ونبهت على ذلك غالبا بوضع المستدرك بين معكوفتين [ ] راجيا من الله تعالى أن ييسر لنا الوقوف على نسخة أخرى نستعين بها على تدارك ذلك على الوجه الأكمل في طبعة أخرى إن شاء الله تعالى .
فاللهم آت نفوسنا تقواها وزكها أنت خير من زكاها أنت وليها ومولاها واحفظها من شر الفتن ما ظهر منها وما بطن وإذا أردت بعبادك فتنة فاقبضنا إليك غير مفتونين .
والله تعالى أسأل أن يتقبل مني عملي هذا وأن يجعله خالصا لوجهه الكريم وأن يكشف عني ما أهمني ويرفع عن المسلمين جميعا ما هم فيه من البلاء وتسلط الأعداء إنه سميع مجيب .
وسبحانك الله وبحمد أشهد أن لا إله إلا أنت استغفرك وأتوب إليك .
بيروت 21 ذي الحجة سنة 1401 ه .
محمد ناصر الدين الألباني
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي ليس سواه واجب الوجود الذي وعد الذين سعدوا بدوام النعيم في جنات الخلود وتوعد الذي شقوا بالأبدية في النار ذات الوقود وأخبر أنه مبدلهم جلودا ليذوقوا العذاب كلما نضجت منهم الجلود وأشهد أن لا إله إلا الله شهادة تدافع عن قائلها إذا كانت الأعضاء هي الشهود وأشهد أن محمدا عبده ورسوله صاحب المقام المحمود في يوم مجموع له الناس وذلك يوم مشهود صلى الله عليه وعلى آله الركع السجود .
وبعد فإن السائل أدام الله له التوفيق وسلك لنا وبه مناهج ذوي التحقيق طلب كشف الأستار عن وجه مسألة فناء النار ودخول المشركين من أهلها مداخل الأبرار . وهذه المسالة من غرائب المسائل ومما خلت عنها أسفار المقالات الحوافل وأشار إليها السيد الإمام محمد بن إبراهيم رحمه الله في ( الإيثار ) وقال :
( وقد أفردت في هذه المسألة مصنفات حافلة منها لابن تيمية ومنها لتلميذه شمس الدين ومنها للذهبي ومنها لي ) هذا لفظه .
ولم أقف على غير ما في ( حادي الأرواح ) ولعل الله سبحانه يعين بالوقوف على مؤلف الذهبي والسيد محمد بمنه وفضله .
وحيث استكشف السائل عن حقيقتها وما عليها من الدلائل تعين [ علينا ] أن نكشف عن وجوه أدلتها النقاب ونبرز المطوي تحت لثامها بعيون أذهان أولي الألباب ونستوفي فيها المقال وإن خرجنا عن الإيجاز إلى الإطناب والإسهاب لأنه عز وجود ما ألف فيها فيحال عليه ولا أعرف فيها منازعا لمدعيها فأرشد إليه .
وليعتذر السائل عن تأخر الجواب فإنه لم يكن استخفافا بالسائل ولا تحقيرا للمسائل بل لما يتواثب على القلوب من الاشتغال . ولم يزل التسويف حتى تقضت أيام وليال فنقول :
اعلم أن هذه المسألة أشار إليها الإمام الرازي في مفاتيح ( الغيب ) ولم يتكلم عليها بدليل نفي ولا إثبات ولا نسبها إلى قائل معين ولكنه استوفى المقال فيها العلامة ابن القيم في كتابه ( حادي الأرواح إلى ديار الأفراح ) نقلا عن شيخه العلامة شيخ الإسلام أبي العباس ابن تيمية فإنه حامل لوائها ومشيد بنائها وحاشد خيل الأدلة منها ورجلها ودقها وجلها وكثيرها وقليلها وأقر كلامه تلميذه ابن القيم وقال في آخرها : ( إنها مسألة أكبر من الدنيا وما فيها بأضعاف مضاعفة ) هذا كلامه في آخر المسألة في ( حادي الأرواح ) وإن كان في ( الهدي النبوي ) أشار إشارة محتملة لخلاف ذلك حيث قال :
( ولما كان المشرك خبيث العنصر خبيث الذات لم تطهر النار خبثه بل لو أخرج منها عاد [ خبيثا ] وكما كان كالكلب إذا دخل البحر ثم خرج منه وقد حرم الله عليه الجنة ) انتهى كلامه .
قلت وحيث كانت بهذه المثابة التي ذكرها من أنها أكبر من الدنيا فلا غنى لنا عن نقل أدلتها التي ارتضاها ابن تيمية وتعقب كل دليل بما يفتح الله به من إقراره أو بيان اختلاله فنقول :
قال ابن القيم بعد نقله لأقوال الناس والمعروفة في كتب المقالات :
( السابع : قول من يقول بل يفنيها ( أي النار ) خالقها تبارك وتعالى فإنه جعل لها أمدا تنتهي إليه ثم تفنى ويزول عذابها ) .
يريد ويدخل الله من كان فيها من الكفار الجنة كما ستعرفه من الأدلة التي ذكرنا - ثم قال :
[ قال ] شيخ الإسلام ( يريد به شيخه أبا العباس ابن تيمية ) : وقد نقل هذا القول عن عمر وابن مسعود وأبي هريرة وأبي سعيد وغيرهم ) .
ثم ساق بسنده إلى الحسن البصري أنه قال : قال عمر : ( لو لبث أهل النار كقدر رمل عالج لكان لهم [ على ذلك ] يوم يخرجون فيه ) . وفي رواية ( عدد رمل عالج ) قال ابن تيمية : ( والحسن وإن لم يسمع من عمر فلو لم يصح عنده عن عمر لم يجزم به ) . انتهى كلامه .
وأقول فيه شيئان :
الأول : من حيث الرواية فإنه منقطع لنص شيخ الإسلام بأنه لم يسمعه الحسن من عمر واعتذاره بأنه لو لم يصح للحسن عن عمر لما جزم به يلزم أن يجري في كل مقطوع يجزم به راويه ولا يقول هذا أئمة الحديث كما عرفت في قواعد أصول الحديث بل الانقطاع عندهم علة والجزم معه تدليس وهو علة أخرى ولا يقوم بمثل ذلك الاستدلال في مسألة فرعية كيف في مسألة قيل أنها أكبر من الدنيا بأضعاف مضاعفة وهذا البخاري أمير المؤمنين في علم الحديث وأشدهم تحريا في الصحيح لم يقل النقادون بأن تعاليقه المجزومة التي أودعها في كتابه الذي سماه ( الصحيح ) صحيحة بل فيها الضعيف كما نص عليه ابن حجر في مقدمة ( الفتح ) .
والحسن البصري معروف عند أئمة هذا الشأن بأنه لا يؤخذ بمراسيله . قال الدارقطني في ( السنن ) وقد روى عاصم الأحول عن ابن سيرين وكان عالما بأبي العالية وبالحسن . قال : ( لا تأخذوا بمراسيل الحسن ولا أبي العالية فإنهما لا يباليان عمن أخذا عنه ) . انتهى .
قلت ثم قال ابن تيمية ولو كان كلام عمر هذا غير صحيح لما تداولته الأئمة ولوجب إنكارهم له لمخالفته الإجماع والكتاب والسنة ) .
قلت : يقال : كلام عمر كغيره من الأقوال الدالة على خروج الموحدين من النار وهو قول عليه جماهير الأئمة منهم ابن تيمية وستعرف أنه لا يصح أثر عمر إلا على تقدير أنه أراد به . الموحدين وأنه يتعين حمله على ذلك عند شيخ الإسلام نفسه وعند غيره .
والثاني من حيث الدراية فإنه لو ثبت صحته عن عمر لم يدل على المدعى فإن أصل المدعى هو : فناء النار وأن لها مدة تنتهي إليها . وليس في أثر عمر هذا إلا أنه يخرج أهل النار من النار والخروج لا يكون إلا وهي باقية فإنك لو قلت : لو لبث زيد في الدار كذا وكذا ثم خرج منها لم يدل هذا على فناء الدار لا مطابقة ولا تضمنا ولا التزاما . فإن قيل : بل هو يدل على فنائها التزاما لأنه تعالى إنما خلقها ليعذب بها من عصاه فبعد خروجهم لم يبق لها حاجة فالحكمة تقتضي فناءها .
قلت هذا دور فإنه لا يثبت أن الحكمة يقتضي فناءها إلا إذا لم يبق فيها أحد ولا يخرج أحد من أهلها إلا بعد فنائها كما تسمع تصريح ابن تيمية بذلك حيث قال :
( وأما [ كون ] الكفار لا يخرجون منها ولا يخفف عنهم من عذابها ولا يقضي عليهم فيموتوا ولا يدخلون الجنة حتى يلج الجمل في سم الخياط فلم يختلف في ذلك الصحابة ولا التابعون ولا أهل السنة وهذه النصوص وأمثالها تقتضي خلودهم في دار العذاب ما دامت باقية ولا يخرجون منها مع بقائها البتة ) . هذا لفظه .
وإذا عرفت مراده عرفت أن أثر عمر لا يدل على مدعاه بشيء من الدلالات الثابتة فإنه قال : ( إنهم يخرجون منها ) وهذا واضح في الخروج منها وهي باقية فلا بد من حمل أثره على معنى صحيح إذ لا يصح حمله على خروج الكفار عند أحد لا ابن تيمية كما عرفت ولا غيره فإنه لا يقول أحد بخروج الكفار من النار فإن صح أثر عمر حمل على أنه أراد خروج الموحدين الذين استحقوا دخول النار بذنوبهم كما دلت عليه الأدلة المعروفة الصحيحة الصريحة التي لا مرية في صحتها .
إلا أن ابن تيمية منع من حمل كلام عمر على ذلك وقال :
( إنما أراد عمر بأهل النار الذين هم أهلها ( وهم الكفار ) : وأما قوم أصيبوا بذنوبهم فقد علم هؤلاء وغيرهم أنهم يخرجون منها ولا يلبثون قدر رمل عالج ولا قريبا منه ) .
فأقول : ولا يخفى ضعف هذا الرد لأن كونهم قد علموا ذلك لا يمنع أن يؤدوه لمن لا يعلمه ويخبروا أنه اعتقادهم وقد علم في فن البيان : أن الإخبار يكون بفائدة الحكم أو لازمها فعلم السامعين بالحكم لا يمنع عن التكلم به وإلقائه إليهم وأما كون عصاة الموحدين لا يلبثون قدر رمل عالج ولا قريبا منه فمسلم ولم يقل عمر أنهم يلبثون قدر رمل عالج بل أتى بقضية شرطية فقال : ( لو لبث ) أي : أنه لو طال لبثهم ذلك القدر لخرجوا ولا دليل في كلامه أنهم يلبثون ذلك القدر فعرفت أيضا غير مانع عن حمل أثر عمر على عصاة الموحدين مع أنه لا يصح حمله على الكفار لأنهم يلبثون أكثر من عدد رمل عالج فقد أخرج الطبراني في ( الكبير ) من حديث ابن مسعود مرفوعا :
( موضوع ) ( لو قيل لأهل النار إنكم ماكثون في النار عدد كل حصاة في الدنيا لفرحوا . . . ) الحديث .
ومما سمعت تعين حمل أثر عمر على عصاة الموحدين عند شيخ الإسلام وعند جميع علماء الأنام .
وإذا عرفت هذا طال تعجبك من نسبة ابن تيمية القول بفناء النار إلى عمر واستدلاله لذلك بهذا الأثر المنقطع رواية الذي هو بمراحل عن الدلالة من حيث الدراية .
تنبيه : وأما مدة لبث عصاة الموحدين فإنها مختلفة فقد أخرج ابن أبي حاتم وابن شاهين في ( السنة ) من حديث علي يرفعه ( إن أصحاب الكبائر من موحدي الأمم كلها الذين ماتوا على كبائرهم غير نادمين ولا تائبين . ( وفيه ) : أن منهم من يمكث شهرا ثم يخرج منها ومنهم من يمكث سنة ثم يخرج منها وأطولهم فيها مكثا بقدر الدنيا منذ خلقت إلى أن تفنى ) .
ومثله [ ما ] أخرج الحكيم في ( نوادر الأصول ) ولفظه ( وأطولهم فيها مكثا مثل الدنيا منذ خلقت إلى أن فنيت وذلك سبعة آلاف سنة ) .
ثم قال شيخ الإسلام مستدلا على فناء النار بما رواه على ابن أبي طلحة في ( تفسيره ) عن ابن عباس أنه قال : ( لا ينبغي لأحد أن يحكم على الله في خلقه ولا ينزلهم جنة ولا نارا ) .
وأقول : لا يخفى على ناظر أنه لا دلالة في هذا الأثر ولا رائحة دلالة على المدعى من فناء النار بل غاية ما يفيده الإخبار عن أنه لا يجزم للمؤمن أنه من أهل الجنة ولا العاص من عصاة المؤمنين أنه من أهل النار . وهذا المعنى ثابت في الأحاديث النبوية الصحيحة .
فقد أخرج الترمذي من حديث أنس أنه توفي رجل فقال رجل آخر ورسول الله صلى الله عليه وسلم وآله وسلم يسمع : أبشر بالجنة . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( وما يدريك لعله تكلم بما لا يعنيه أو بخل بما لا ينقصه ) . بل ورد في الطفل الذي لا تكليف عليه نحو ذلك .
وقد صرح ابن القيم في آخر كتابه ( حادي الأرواح ) في الباب السبعون فيما زعم أنه عقيدة أهل السنة وعقيدة الصحابة وأهل العلم وأصحاب الأثر بأنه لا يشهد لأحد من أهل القبلة أنه من أهل النار لذنب عمله ولا لكبيرة أتاها إلا أن يكون ذلك في حديث وأن لا يشهد لأحد أنه في الجنة بصالح عمله إلا أن يكون ذلك في حديث . انتهى .
فهذا هو الذي أراده ابن عباس ولو لم
( وليس لأحد أن يتبع زلات العلماء كما ليس له أن يتكلم في أهل العلم والإيمان إلا بما هم له أهل فإن الله تعالى عفا عن المؤمنين عما أخطؤوا كما قال تعالى : { ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا } قال الله : قد فعلت . وأمرنا أن نتبع ما أنزل إلينا من ربنا ولا نتع من دونه أولياء وأمرنا أن لا نطيع مخلوقا في معصية الخالق ونستغفر لإخواننا الذين سبقونا بالإيمان فنقول : { ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان } .
وهذا أمر واجب على المسلمين في كل ما كان يشبه هذا من الأمور ونعظم أمره تعالى بالطاعة لله ورسوله ونرعى حقوق المسلمين لا سيما أهل العلم منهم كما أمر الله ورسوله ومن عدل عن هذه الطريقة فقد عدل عن اتباع الحجة إلى اتباع الهوى في التقليد وآذى المؤمنين والمؤمنات بغير ما اكتسبوا فهو من الظالمين . ومن عظم حرمات الله وأحسن إلى عباد الله كان من أولياء الله المتقين ) .
{ إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد } .
وإن مما يمنع توجيه الطعن في ابن تيمية لقوله بفناء النار علاوة على ما ذكرنا آنفا أن له قولا آخر في المسألة وهو عدم فنائها كما سبق بيانه بالنقل عنه . وإذا كنا لا نعلم أي القولين هو المتأخر فمن البدهي أن الطاعن لا بد له من الجزم بأنه هو الأول ودون هذا خرط القتاد وأما نحن فإن حسن الظن الذي أمرنا به يقتضينا بأن نقول : لعله القول الآخر لأنه موافق للإجماع الذي نقله هو نفسه فضلا عن غيره كما تقدم وقد يؤيده هذا أن ابن القيم نقله أيضا كما بق في قصيدته ( الكافية الشافية ) فالظاهر أنه مات على ذلك لأنها قرئت عليه في آخر حياته فقد ترجمه الحافظ ابن رجب الحنبلي في ( طبقاته ) وذكر في آخرها ما يشعرنا بذلك فقال : ( 2/448 ) :
( ولازمت مجالسه قبل موته أزيد من سنة وسمعت عليه قصيدته النونية الطويلة في السنة وأشياء من تصانيفه وغيرها ) .
أقول فإذا صح ظننا هذا فالحمد لله وإلا فأسوأ ما يمكن أن يقال : إنه خطأ مغفور لهما بإذن الله تعالى لأنه صدر عن اجتهاد صادق منهما ومعلوم أن المجتهد مأجور ولو أخطأ كما جاء في الحديث الصحيح : ( إذا حكم الحاكم فاجتهد فأصاب فله أجران وإذا اجتهد فأخطأ فله أجر واحد ) . متفق عليه .
وقد تقرر في الأصول أن الخطأ مغفور ولو في المسائل العلمية كما حققه شيخ الإسلام ابن تيمية في كثير من كتبه وفتاويه .
هذا بالإضافة إلى ما لهما من الجهاد والبلاء الحسن في الدعوة إلى العمل بالكتاب والسنة والرد على المبتدعة والفرق الضالة وتقديم الإسلام إلى المسلمين صافيا نقيا على منهج السلف الصالح وإن ما نراه اليوم في العالم الإسلامي من نهضة فكرية وعلمية ودعوة سنية سلفية فهو ثمرة من ثمار جهادهما وصبرهما جزاهما اله تعالى عن الإسلام والمسلمين خيرا .
ولذلك رأينا المصنف رحمه الله تعالى مع أنه لم يقصر في الرد عليهما فإنه لا يذكرهما إلا مقرونا بالإجلال والإكبار وبخاصة الشيخ ابن تيمية فإنه وصفه في أول الكتاب ب ( العلامة شيخ الإسلام ) ويذكره بهذا اللقب كثيرا ووصفه في مكان آخر ( ص 120 ) بتبحره في العلوم وسعة اطلاعه على أقوال السلف والخلف ) وصدق من قال : ( إنما يعرف الفضل لذوي الفضل أهل الفضل ) . أقول هذا لأن كثيرا من المقلدة المتعصبة تقزز نفوسهم من إطلاق لقب ( شيخ الإسلام ) على ابن تيمية رحمه الله تعالى حتى أن العلاء البخاري الحنفي المتعصب كفر من يلقبه به وقد رد عليه أحسن الرد الحافظ ابن ناصر الدين الدمشقي الشافعي في كتابه القيم ( الرد الوافر على من زعم بأن من سمى ابن تيمية ( شيخ الإسلام ) كافر ) . ذكر فيه نحو المائة من كبار العلماء المشهورين من مختلف المذاهب وكلهم يلقب ابن تيميه يلقبه : ( شيخ الإسلام ) . وقد قام بتحقيقه والتعليق عليها أخونا الأستاذ زهير الشاويش صاحب المكتب الإسلامي جزاه الله خير الجزاء على جهده القيم .
أقول هذا بيانا للحقيقة وإلا فأنا أعلم أن هذا اللقب وغيره مما هو مستعمل اليوم لم يكن معروفا عند السلف فالخير كله في الاتباع ولا سيما وقد صار مبتذلا في العصور المتأخرة بحيث أنهم يطلقونه نفاقا ورياء على من لا علم عنده بل هو ممن يصدق عليه المثل الشهير : لا في العير ولا في النفير ولعل من ألطاف الله تعالى بالشيخين رحمهما الله تعالى أننا لم نر أحدا - فيما أطلعنا - تبعهما على ذلك القول بالفناء فهذا شارح العقيدة الطحاوية مثلا فإنه مع كونه لا يكاد يخرج فيه عما ذهب إليه ابن تيمية رحمه الله تعالى فإنه ههنا ذكر أدلة هذا القول ثم ذكر أدلة القول الآخر وهي ملخصة من كلام ابن القيم ولم يرجح شيئا منهما ذكر ذلك تحت قول الطحاوي المتقدم : ( والجنة والنار مخلوقتان لا تفنيان أبدا ولا تبيدان ) .
وأما العلامة السفاريني فقد رأيته تعرض للموضوع في كتابه ( شرح الدرة المضية في عقد الفرق المرضية ) ونقل فيه طرفا من بحث ابن القيم ولكنه صرح بمخالفته فإنه ذكر بعض الآيات المستلزمة لدوام العذاب وحديث ذبح الموت المتقدم ثم قال ( 2/234 - 235 ) :
( فثبت بما ذكرنا من الآيات الصريحة والأخبار الصحيحة خلود أهل الدارين خلودا مؤبدا كل بما فيه من نعيم وعذاب أليم وعلى هذا إجماع أهل السنة والجماعة فأجمعوا أن عذاب الكفار لا ينقطع كما أن نعيم أهل الجنة لا ينقطع وقد ألف العلامة مرعي بن يوسف الكرمي الحنبلي رسالة سماها ( توقيف الفريقين على خلود أهل الدارين ) .
وهذا ما ذهب إليه الشيخ نعمان الآلوسي فإنه تعرض للمسألة في كتابه ( جلاء العينين في محاكمة الأحمدين ) ( ص 420 - 424 ) نقل فيه الأقوال السبعة في عذاب أهل النار وقال :
( وأما بداية النار ففيها قولان معروفان عن السلف والخلف والأصح عدم فنائها أيضا ) .
ثم قال في قول ابن تيمية :
( واعلم أن الإمام ابن القيم قدس الله تعالى روحه انتصر لهذا القول انتصارا عظيما ومال إليه ميلا جسيما وذكر خمسة وعشرين دليلا ثم رجع القهقرى وقال : إن قيل : إلى أين انتهى قدمك في هذه المسألة العظيمة ؟ قيل : إلى قوله تعالى { إن ربك فعال لما يريد } وإلى هنا انتهى قدم أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه فيها حيث ذكر دخول أهل الجنة وأهل النار وما يلقاه هؤلاء وهؤلاء قال : ثم يفعل لك بعد ذلك ما يشاء . ثم قال : وما ذكرناه في هذه المسألة من صواب فمن الله سبحانه وهو المنان وما كان من خطأ فهو مني ومن الشيطان والله ورسوله بريئان منه ) .
قلت : وقوله في ابن القيم : ( ثم رجع القهقرى وقال . . . ) نظر عندي لأنه ليس صريحا في ذلك وغاية ما يمكن أن يؤخذ منه أنه لم يجزم بما دندن حوله من الانتصار للقول بفناء النار ومناقشة أدلة المخالفين ورده عليها مما سترى الرد عليه فيها في الكتاب أن شاء الله تعالى ولكن ذلك لا ينفي ميله إلى ترجيحه إياه وإلا كانت دندنته { كالتي نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثا } وهذا مما لا يليق أن يقال في مثله كما لا يخفى ويؤيد هذا أن خاتمته للبحث في ( شفاء العليل ) التي أشرت إليها آنفا أقوى في الدلالة على ما ذكرت فإنه قال ما خلاصته ( ص 264 ) :
( وأنا في هذه المسألة على قول أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه فإنه ذكر دخول أهل الجنة . . . والقول بأن النار وعذابها دائم بدوام الله خبر عن الله بما يفعله فإن لم يكن مطابقا لخبره عن نفسه بذلك وإلا كان قولا عليه بغير علم والنصوص لا تفهم ذلك . والله أعلم ) .
قلت : فقوله : ( والنصوص لا تفهم ذلك ) صريح منه بأنه لا يختار القول ببقاء النار فهو إذن يميل إلى القول بفنائها غير أنه لا يقطع بذلك لأنه يشعر أنه ليس لديه دليل قاطع فيه وإنما هو فهمه واستنباطه ولذلك ترك فيها مجالا للأخذ والرد كما هو شأن العلماء المنصفين الذين لا يفرضون رأيهم على الآخرين لا سيما في مثل هذا الفهم الذي أجمع العلماء على خلافه ومما يؤكد ذلك قوله في خاتمة بحثه في ( الصواعق ) :
( . . . فتأمل هذا الوجه حق التأمل وأعطه حقه من النظر واجمع بين ذلك وبين معاني أسمائه وصفاته وما دل عليه كلام الله وكلام رسوله وما قاله الصحابة ومن بعدهم ولا تبادر إلى القول بلا علم ولا إلى الإنكار فإن أسفر لك صبح الصواب وإلا فرد الحكم إلى ما رده الله إليه بقوله { إن ربك فعال لما يريد } وتمسك بقول علي ابن أبي طالب رضي الله عنه وقد ذكر دخول أهل الجنة الجنة وأهل النار النار ووصف حالهما ثم قال : ويفعل الله بعد ذلك ما يشاء ) .
ولكني ألاحظ في هذا النص أنه يأمر فيه من لم يتبين الصواب أن ينهي إلى قوله تعالى : { إن ربك فعال لما يريد } وقول علي المذكور وذلك ما انتهى هو إليه في خاتمة ( الحادي ) .
فهل يعني ذلك أن ابن القيم نفسه بعد تلك المناقشة الطويلة لم يتبين له الصواب فانتهى إلى ما أمر به من لم يتبين له الصواب أم هو التردد في مثل هذه المسألة الخطيرة التي كان الأولى به أن يقف فيها حيث وقف العلماء ولا يدخل نفسه في مضايق لا قبل للعقل البشري أن يدخلها ؟
ويؤسفني والله جدا قوله المتقدم : ( والنصوص لا تفهم ذلك ) كيف يتجرأ على مثل هذا القول والنصوص قاطعة في ذلك من الكتاب والسنة كما تقدم فلا جرم أجمعت على مدلولها الأمة . فالحق والحق أقول : لقد أصيب ابن القيم في هذه المسألة مع الأسف الشديد بآفة التأويل التي ابتلي بها أهل البدع والأهواء في مقالتهم التي خرجوا بها عن نصوص الكتاب والسنة فرد عليهم ذلك هو وشيخه ابن تيمية أحسن الرد في كتبهما الكثيرة المعروفة فما باله وقع في مثل ما وقعوا من التأويل .
ولقد كان أوله في تأويلهما قول عمر على انقطاعه : ( لو لبث أهل النار عدد رمل عالج لكان لهم يوم يخرجون فيه ) . فاستدلا به على الفناء المزعوم وهو صريح في الخروج من النار وهما لا يقولان به وهكذا تأولوا كثيرا من الآثار بالفناء وهي في الخروج كما ستراه مفصلا في الكتاب بإذن الله تعالى .
ثم قال الشيخ نعمان الآلوسي في ( محاكمة الأحمدين ) ص ( 424 ) :
( ونقل الوالد قدس الله تعالى روحه في ( تفسيره ) عن الفهامة ابن الجوزي : أنه ضعف بعض الآثار الواردة في ذلك . ( ثم ذكر خبر ابن عمرو الآتي ( ص 81 ) ثم قال : وأول البعض أيضا بعضها قال :
( وأنت تعلم أن خلود الكفار مما أجمع عليه المسلمون لا عبرة بالمخالف والقواطع أكثر من أن تحصى ولا يقاوم واحدا منها كثير من هذه الأخبار ) .
قلت : ولو كان العلم بالتمني لتمنيت أن يكون ما عزاه العلامة الشيخ جمال الدين القاسمي لابن القيم صحيحا ولكنها من أوهام العلماء فقد قال في تفسيره ( محاسن التأويل ) ( 6/2503 - 2504 ) :
( وقد بسط البحث وجود الإمام ابن القيم في كتابه ( حادي الأرواح ) ومع كونه انتصر لهذا القول انتصارا عظيما وذكر له خمسة وعشرين دليلا لم يصححه حيث قال : وأما أبدية النار ففيها قولان معروفان عن السلف والخلف والأصح عدم فنائها . أيضا . انتهى ) .
فقوله : ( وأما أبدية النار . . . ) إلخ . إنما هو من كلام الشيخ نعمان الآلوسي كما تقدم نقله عنه توهمه الشيخ القاسمي - على ما كان عليه من الوعي - أنه من كلام ابن القيم وبناء عليه قال : ( لم يصححه ) فهو وهم آخر نشأ من الوهم الأول فسبحان من لا يسهو ولا يهم .
هذا - ثم أن ابن القيم - عفا الله عنا وعنه لم يقنع بميله إلى القول بفناء نار الكفار وتخلصهم به من العذاب الأبدي في تلك الدار حتى طمع لهم في رحمة الله أن ينزلهم منازل الأبرار جنات تجري من تحتها الأنهار ذلك ما يظهر لنا من بعض الأدلة التي ساقها تأييدا للقول بفناء النار وهو مما نبه عليه المؤلف رحمه الله معقبا على قول ابن القيم : ( ثم تفنى ويزول عذابها ) فقال ( ص 64 ) :
( يريد : ويدخل الله من كان فيها من الكفار الجنة كما ستعرفه من الأدلة التي ذكرها ) .
وأعاد هذا المعنى في مكان آخر ( ص 120 ) .
وإن مما لا شك فيه أن هذا الذي استظهرناه هو في الخطورة والإغراق كقوله بالفناء أن لم يكن أخطر منه لأنه كالثمرة له ولأنه لا قائل به مطلقا من المسلمين بل هو من المعلوم من الدين بالضرورة للأدلة القاطعة بأن الجنة محرمة على الكفار كقوله تعالى : { إنه من يشرك بالله فقد حرم الله عليه الجنة ومأواه النار } [ المائدة/72 ] وقوله : { إن الذين كذبوا بآياتنا واستكبروا عنها لا تفتح لهم أبواب السماء ولا يدخلون الجنة حتى يلج الجمل في سم الخياط } [ الأعراف/40 ] وكقوله صلى الله عليه وسلم الذي أمر الذي أمر بالمناداة به يوم حنين : ( إنه لا يدخل الجنة إلا نفس مسلمة ) . أخرجه البخاري ومسلم ( 01/74 ) عن أبي هريرة وله مثله عن عمر بلفظ ( . . . إلا المؤمنون ) وله شواهد فانظر ( إرواء الغليل ) ( 963 ) أن شئت . ويكفي في ذلك قوله تعالى : { إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء } [ النساء/48 ] .
فإننا نعلم بالضرورة أن من دخل الجنة فقد غفر الله له وعلى العكس .
ولذلك قال شيخ الإسلام ابن تيمية في بحث له في ( المجموع ) ( 14/476 - 477 ) .
( ولا يدخل الجنة إلا أهل التوحيد وهم أهل { لا إله إلا الله } ) . ثم قال : ( ولكن لا يعذب الله أحدا حتى يبعث إليه رسولا وكما أنه لا يعذبه فلا يدخل الجنة إلا نفس مسلمة مؤمنة ولا يدخلها مشرك ولا مستكبر عن عبادة ربه ) .
قلت : ومثل هذا مما لا يخفى على ابن القيم بل هو ممن صرح بذلك في غير ما موضع من كتبه فهو يقول مثلا في ( الجواب الكافي لمن سأل عن الدواء الشافي ) . ( ص 89 ) :
( إن الله حرم الجنة على كل مشرك ) .
بل إنه لما حكى في ( الحادي ) ( 2/169 - 170 ) قول من يقولك أن أهل النار يعذبون فيها إلى وقت محدود ثم يخرجون منها ويخلفهم آخرون أبطله بعدة آيات ساقها كلها صريحة في عدم خروج أهل النار منها وكان آخرها آية الأعراف المتقدمة : { ولا يدخلون الجنة حتى يلج الجمل في سم الخياط } . قال عقبها :
( وهذا أبلغ ما يكون في الإخبار عن استحالة دخولهم الجنة ) .
وحينئذ كيف يصح ما سبق من استظهارنا أن ابن القيم يميل إلى القول بأن الكفار يدخلون الجنة بعد العذاب ؟
والذي يدور في ذهني من الجواب على وجهين :
الأول : إما أن يقال : أن صريح كلامه ينافي ما وصل إليه باستنباطه فهو الذي ينبغي الاعتماد عليه ونسبته إليه وهو الأحب إلي .
والآخر : أن يجمع بين الصريح والمستنبط فيقال : الصريح يريد به دخول الكافر الجنة بعد خروجه من النار فهذا هو المستحيل وأما المستنبط فإنما يريد به دخول الجنة بعد فناء النار
وهذا الجمع وإن بدا غريبا فليس بأغرب من تفريقه بين انتهاء عذاب الكفار بخروجهم من النار فهذا مستحيل أيضا وفقا لجميع العلماء وبين انتهاء عذابهم بفناء النار فهذا أمر جائز بل واقع عنده ويجادل فيه ويصول ويجول ويتأول النصوص الصريحة المخالفة له مما لا نعرفه عنه وإنما عن أهل البدع والأهواء الذين قضى حياته هو وشيخه في الرد عليهم والكشف عن ضلالتهم .
وبغير هذا الجمع لا يمكن أن يفهم كلامه في رده على مخالفيه فانظر إلى قوله في ( الحادي ) ( 2/185 ) :
( وأما الطريق الثاني وهو دلالة القرآن على بقاء النار وعدم فنائها فإن في القرآن دليل واحد يدل على ذلك ؟ نعم الذي دل عليه القرآن : أن الكفار خالدين في النار إلى الأبد وأنهم غير خارجين منها و. . . و. . . و. . . وليس هذا مورد النزاع وإنما النزاع في أمر آخر وهو أنه هل النار أبدية أو مما كتب عليه الفناء . قال :
( وأما كون الكفار لا يخرجون منها و{ لا يفتر عنهم } من عذابها { ولا يقضى عليهم فيموتوا } { ولا يدخلون الجنة حتى يلج الجميل في سم الخياط } فلم يختلف في ذلك الصحابة والتابعون ولا أهل السنة . . .
فهذه النصوص وأمثالها تقتضي خلودهم في دار العذاب ما دامت باقية ولا يخرجون منها مع بقائها البتة )
فتأمل نقله اتفاق الصحابة ومن بعدهم على أنهم لا يدخلون الجنة كما في الآية الكريمة فإنه لا يتفق مع ميله إلى أنهم يدخلون الجنة يوما ما إلا يحمل الدخول المنفي على دخول مقرون بخروجهم نم النار والدخول المثبت على دخولهم بعد فناء النار كما ذكرنا وهذا المعنى يكاد يكون صريحا في سياق كلامه على هذه الطريق في كتابه ( شفاء العليل ) فإنه قال بعد الآيات النافية المتقدمة بما فيها الآية النافية لدخولهم الجنة قال ( ص 260 ) :
( وهذه الطريق لا تدل على ما ذكروه وإنما يدل على أنها ما دامت باقية فهم فيها فأين فيها ما يدل على عدم فنائها ؟ ) .
قلت : فكأنه يريد أن يقول : وأين الدليل أيضا في الآية المذكورة على نفي دخولهم الجنة بعد فناء النار ؟
فيا سبحان الله ما يفعل التأويل بأهله وإلى حضيض سحيق يهوون به فيه وإلا فقل لي بربك : كيف يمكن لابن القيم أن ينكر أبدية النار ببقاء أهلها فيها وعدم دخولهم الجنة مطلقا لولا تشبثه بذاك التأويل البشع وهو المعروف بمحاربته لعلماء الكلام من المعتزلة والأشاعرة لتأولهم كثيرا من آيات وأحاديث الصفات كاستواء الله على عرشه ونزوله إلى السماء ومجيئه يوم القيامة وغير ذلك من التأويل الذي هو أيسر من تأويله فقد قال به كثير من المتأخرين خلافا للسلف وأما تأويله فلم يقل به أحد منهم لا من السلف ولا من الخلف إلا تقليدا لشيخه ولقد كان من الواجب عليه أن يلتزم بقول إمامه الذي قال ناصحا لكل سلفي :
( إياك أن تتكلم في مسألة ليس لك فيها إمام ) .
وكان في المحنة يقول :
( كيف أقول ما لم يقل ؟ ) .
وإن مما يتنبه له الباحث المتأمل أن يرى موقفين متباينين أشد التباين لابن تيمية رحمه الله تعالى فإنه في الوقت الذي مال إلى القول بفناء النار وانتصر وله ابن القيم ذاك الانتصار الغريب المتكلف نرى ابن القيم نفسه قد عقد في ( الحادي ) ستة أبواب في مسألة أخرى هي أهون من هذه بكثير من حيث موضوعها ومن حيث اختلاف العلماء فيها ألا وهي :
جنة آدم عليه السلام التي أهبط منها هل هي جنة الخلد التي وعد بها المتقون أم غيرها ؟ على قولين للعلماء أطال النفس فيها جدا ( ص 43 - 80 ) وذكر حجة كل منهما وما له وما عليه وعلى الرغم من أن من القائلين بأنها ليست جنة الخلد أبا حنيفة وأصحابه وابن عيينة كما حكاه ابن القيم ومال إليه هو في آخر الباب الرابع ( ص 68 - 69 ) : على الرغم من ذلك نرى شيخ الإسلام ابن تيمية يرده بكل صراحة وشدة يقول في بعض فتاويه :
( والجنة التي أسكنها آدم وزوجته عند سلف الأمة وأهل السنة والجماعة هي جنة الخلد ومن قال إنها في الأرض بأرض الهند أو بأرض جدة أو غير ذلك فهو من المتفلسفة والملحدين أو من إخوانهم المبتدعين فإن هذا يقوله من يقوله من المتفلسفة والمعتزلة ) .
فأقول : أليس كان الحق بمثل هذا الرد الأشد من قال بفناء النار أيا كان القائل لأنه لم يقل به أحد حتى ولا المعتزلة ولأن أدلته وهمية لا حقيقة لها كما سيفصل المؤلف القول في ذلك تفصيلا ويبين بطلانها تبيانا بحيث لا يدع شبهة إلا أطاح بها ولا متأثرا بها إلا أعاده إلى الصراط المستقيم يمشي عليه سويا .
غير أن هناك شبهة أخرى أوردها ابن القيم رحمه الله لم أر المؤلف جزاه الله خيرا تعرض لها فلا بد لي أن أذكرها لأرد عليها بما يبدوا لي راجيا منه تعالى أن يلهمني الصواب ويعصمني من الخطأ . قال في ( الحادي ) ( 2/221 ) :
( لو جاء الخبر منه سبحانه صريحا بأن عذاب النار لا انتهاء له وأنه أبدي لا انقطاع له لكان ذلك وعيدا منه سبحانه والله تعالى لا يخلف وعده وأما الوعيد فمذهب أهل السنة كلهم : أن إخلافه كرم وعفو وتجاوز بمدح الرب تبارك وتعالى عليه فإنه حق له إن شاء تركه وإن شاء استوفاه والكريم لا يستوفي حقه فيكف بأكرم الأكرمين وقد صرح سبحانه في كتابه في غير موضع بأنه لا يخلف وعده ولم يقل في موضع واحد لا يخلف وعيده وقد روى أبو يعلى . . . . عن أنس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( من وعده الله على عمل ثوابا فهو منجزه ومن أوعده على عمل عقابا فهو فيه بالخيار ) .
وأقول وبالله المستعان :
أولا : قد جاءت الأخبار كتابا وسنة بأبدية النار وعذابها كما تقدم فلا داعي لإعادة وما تشبث به ابن القيم رحمه الله في خلاف ذلك مردود بل باطل كما يأتي شرحه من المؤلف رحمه الله تعالى .
ثانيا : ما ذكره : أن مذهب أهل السنة كلهم جواز إخلاف الله لوعيده لا أعلمه بهذا الإطلاق وقد بحث شيخ الإسلام الخلاف المعروف ين المرجئة والمعتزلة في الوعد والوعيد في مناسبات شتى فلم يذكر هذا بل صرح بخلافه في بعض المواطن فإنه بعد أن ذكر حديث الشفاعة وغيره في دخول بعض الموحدين النار وخروجهم منها قال : ( 16/196 ) :
( وفيه رد على من يقول : ( يجوز أن لا يدخل الله من أهل التوحيد أحدا النار ) كما يقوله طائفة من المرجئة والشيعة . . . ) .
فإذا لم يجز هذا الإخلاف في حق الموحدين فكيف يجوز الإخلاف الأكبر الذي هو في حق المشركين ؟
ثالثا : ( ولم يقل في موضع واحد : لا يخلف وعيده ) .
فأقول : قد فاته - عفا الله عنا وعنه - قوله تعالى في ( ق : 27 - 29 ) { قال قرينة ربنا ما أطغيته ولكن كان في ضلال بعيد . قال لا تختصموا لذي وقد قدمت إليكم بالوعيد . ما يبدل القول لدي وما أنا بظلام للعبيد } .
ولهذا قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله عقبه ( 14/498 ) :
( وهذا يقتضي أنه صادق في وعيده أيضا وأن وعيده لا يبدل وهذا مما احتج به القائلون بأن فساق الملة لا يخرجون من النار وقد تكلمنا عليهم في غير هذا الموضع لكن هذه الآية يضعف جواب من يقول : أن إخلاف الوعيد جائز فإن قوله : { ما يبدل القول لدي } بعد قوله : { وقد قدمت إليكم بالوعيد } دليل على أن وعيده لا يبدل كما لا يبدل وعده ) .
رابعا : حديث أنس المذكور إسناده ضعيف كما كنت بنيته في ( الأحاديث الصحيحة ) ( 2463 ) وعلى فرض ثبوته فهو بمعنى قوله تعالى : { إن الله لا يفغر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء } وما في معناها من الأحاديث أي أن الحديث في الموحدين وليس في المشركين فهؤلاء مستثنون من المغفرة بهذه الآية وغيرها .
وإلى هذا أشار العلامة المرتضى اليماني بقوله في ( إيثار الحق على الخلق ) ( ص 389 ) : ( والحق أن الله لا يخلف الوعيد إلا أن يكون استثنى فيه ) . وهذا مما يشعر به قول ابن تيمية نفسه في ( مجموع الفتاوى ) ( 24/375 ) فإنه قال :
( وأحاديث الوعيد يذكر فيها السبب وقد يتخلف موجبه لموانع تدفع ذلك إما بتوبة مقبولة وإما بحسنات ماحية وإما بمصائب مكفرة وإما بشفاعة شفيع مطاع وإما بفضل الله ورحمته ومغفرته فإنه { لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء } .
فهذا منه رحمه الله كالتفصيل لكلام ابن القيم وهو يقيده ويبين أن الإخلاف للوعيد إنما يكون لمانع من تلك الموانع وليس منها الشرك بداهة فإن الله لا يغفره .
فتأمل في هذا يتبين لك خطأ ابن القيم في بعض مما يدعيه ويعزوه لأهل السنة دون قيد أو شرط فيكون ذلك مثار شبهة عنده تحمله على أن يتأول النصوص القاطعة الدلالة فيخرج بذلك عما عليه أهل السنة والجماعة فيقع في الخطأ من حيث لا يدري ولا يشعر .
وإن من العجيب حقا أن ينفرد بالاغترار بكلامه في هذه المسألة الخطيرة العلامة السيد محمد رشيد رضا رحمه الله تعالى لما تعلم عنه من استقلاله في الفهم وبعده عن الجمود والتقليد فإنه مع ذلك تابعه عليه دون كل من وقفنا على كلامه من المحققين الذين وقفوا عليه ولم يتابعوه أمثال الآلوسي أبا وابنا وغيرهما ممن سبق ذكره فقد نقل السيد رشيد كلام ابن القيم على طوله من ( حادي الأرواح ) في تفسير سورة ( الأنعام ) ( ج 8 ص 69 - 99 ) تحت ( فصل في الخلاف في أبدية النار وعذابها ) وختمه مفصحا عن إعجابه به بقوله :
( وإنما أوردناه بنصه على طوله لما تضمنه من الحقائق التي نوهنا بها ولأمر آخر أهم وهو أننا نعلم أن أقوى شبهات الناس من جميع الأمم على الدين قول أهل كل دين من الأديان المشهورة أنهم هم الناجون وحدهم وأكثر البشر يعذبون عذابا شديدا دائما لا ينتهي أبدا بل تمر ألوف الألوف المكررة من الأحقاب والقرون ولا يزداد إلا شدة وقوة وامتدادا مع قولهم ولا سيما المسلمين منهم : أن الله تعالى أرحم الراحمين وإن رحمة الأم العطوف الرؤوم بولدها الوحيد ليست إلا جزاءا صغيرا من رحمة الله التي وسعت كل شيء .
وهذا البحث جدير بأن يزيل شبهة هؤلاء فيرجع المستعدون منهم إلى دين الله تعالى مذعنين لأمره ونهيه راجين رحمته خائفين عقابه الذي تقتضيه حكمته لأنهم لا يعلمون قدره ) .
قلت هذا الكلام خيال لا حقيقة له في الواقع لأن الأصل في هذه المسألة وغيرها من المسائل الاعتقادية الغيبية إنما هو الإيمان بما جاءنا عن الرحمن الرحيم العليم الحكيم كما قال في القرآن الكريم : { هدى للمتقين . الذين يؤمنون بالغيب } .
وهو الإيمان بكل ما غاب عن عقلك فمن لم يؤمن بما أخبر به تعالى من خلود الكافرين في النار أبد العابدين لأن عقله لم يقبله فلن يؤمن بعقاب يبلغ مئات السنين أخبر به رب العالمين في مثل آية { لابثين فيها أحقابا } ولو على افتراض أن له أمد منتهيا ( لا يعلمون قدره ) إذ أن لبثهم هذه المدة الطويلة التي تزيد على مدة عمرهم الذي قضوه كافرين أضعافا مضاعفة فلو أراد أحد أن يقنعهم بها وأنها عدل من الله فلن يصل إلى نتيجة معهم أبدا اللهم إلا من طريق الإيمان بالله ورسوله .
وإذا كان الأمر كذلك فمن العبث بل من الضلال أن يحاول أحد إقناع المشركين في أصل الدين ببعض ما جاء فيه من العقائد من طريق العقل المجرد عن الإيمان فإن هذا مع كونه لا يثمر معهم إلا الخسران فإنه ليس من سبيل المؤمنين بل هو سبيل المتأثرين بالفلسفة وعلم الكلام الذي حملهم إلى تأول آيات وأحاديث الصفات وتفسيرها بما يتناسب مع عقولهم وأهواء أمثالهم من ضعفاء الإيمان وربما فعل ذلك بعضهم لإقناع الآخرين وإن كان هو في قرارة نفسه لا يؤمن بذلك التأويل فهل يمكن أن يكون كلام السيد رشيد رضا من هذا القبيل بغية إرشاد من ضل عن سواء السبيل ؟
فقد كنت لقيت رجلا فاضلا في بعض أسفاري إلى المغرب منذ بعض سنين يظهر أنه سلفي العقيدة فزرته في داره .
ودار البحث في الدعوة السلفية هناك وإذا به يصرح بأنه لا يرى مانعا في سبيل تقريب الناس إليها من تأويل آيات الصفات وأحاديثها لإقناع المخالفين
فقلت له : عجبا كيف يمكن أن يكون هذا ؟ إذ كيف تقدم إليهم معنى للنص أنت تؤمن بخلافه أولا ثم كيف تكون قد دعوته إلى مذهبك السلفي وقد قدمت إليه المعني الخلفي ؟ أن أخشى ما أخشاه أن يكون هذا من باب قول من قال : ( وداوني بالتي كانت هي الداء وختاما أقول : لقد خرجت من دراستي لهذه الرسالة النافعة للأمير الصنعاني رحمه الله تعالى بالعبر الآتية :
الأولى : أنني ازددت إيمانا ويقينا بالقول المأثور عن جمع من الأئمة : ( ما منا من أحد إلا رد ورد عليه إلا النبي صلى الله عليه وسلم ) . فهذا شيخ الإسلام ابن تيمية زلت به القدم فقال قولا لم يسبق إليه ولا قام الدليل عليه ومن هنا قالوا : ( زلة العالم زلة العالم ) فلو أننا كنا مبتلين بتقليده كما ابتلي كل مقلد بتقليد إمامه لزللنا بزلته ولذلك قالوا : ( الحق لا يعرف بالرجل اعرف الحق تعرف الرجال ) .
فالحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله .
الثانية : بطلان الخرافة التي يطلقها اليوم كثير من الكتاب الإسلاميين المعاصرين وفيهم بعض من يجلون شيخ الإسلام ابن تيمية : أن الخلاف في الفروع وليس في الأصول .
وقد يسارع بعض الجاحدين لعلم شيخ الإسلام وفضله الحاقدين عليه لرده على أهل الأهواء والمبتدعة المبغضين له لإخلاصه في الدعوة لاتباع الكتاب والسنة فيقول : إنما الخلاف في الأصول من ابن تيمية وأمثاله المخالفين للجمهور والمثال أمامك .
فأقول : كذبت والله فإن الخلاف المذموم إنما يكون من المصرين عليه بعدما تبين لهم الحق كما في قوله تعالى : { ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى ونصله جهنم وساءت مصيرا } .
والشيخ رحمه الله لم يعرف يوما بالإصرار على الخطأ مهما كان نوعه بدليل رجوعه عن كثير من آرائه التي كان عليها بعدما تبين له الحق وقد ذكرنا فيما سبق نماذج منها وأما خلافه في هذه المسألة فهي زلة منه بلا شك يغفرها الله له إن شاء الله تعالى كفاه جهاده في سبيل الله إلى آخر رمق من حياته حتى توفي في سجن دمشق مظلوما بعيدا عن أهله وتلامذته وكتبه ولغير ذلك من الأسباب التي سبق التحدث عنها .
والخلاف المذموم حقا : إنما هو من أولئك المقلدين الذين يصرون على التدين بالتقليد والإعراض عن الاهتداء بهدي رسول الله صلى الله عليه وسلم مباشرة والإخلاص له في اتباعه وحده دون سواه الذي هو من لوازم الشهادة له بأنه رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد أمرنا بطاعته استقلالا لا يشاركه في ذلك أحد من البشر في غير ما آية من آيات الله تبارك وتعالى فأي خلاف شر من هذا الذي عليه المقلد هذا الذي يظل { يسمع آيات الله تتلى عليه ثم يصر مستكبرا كأن لم يسمعها فبشرها بعذاب أليم } [ الجاثية/8 ] .
فالخلاف حقيقة واقعة - مع الأسف - أصولا وفروعا فلا يجوز تجاهلها أو الرضا بها وإنما يجب على أهل العلم أن يحاولوا في كل قطر ومصر تقليله قدر الاستطاعة ولا سبيل إلى ذلك إلا بشيء واحد وهو تحكيم الكتاب والسنة في كل خلاف كما هو صريح قوله تعالى : { فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلا } .
الثالثة : لقد وجدت في هذه الدراسة مثلا جديدا يضاف إلى الأمثلة العديدة التي كنت ولا أزال أشير إليها في كتابي ( سلسلة الأحاديث الضعيفة والموضوعة وأثرها الشيء في الأمة ) نصحا وتحذيرا لأن من آثارها السيئة أنها تصرف كثيرا من العلماء والفقهاء فضلا عن غيرهم عن تبني الحكم الصحيح فيما هم فيه مختلفون من العقائد والأحكام وقد تكون معارضته لنص أو نصوص في الكتاب والسنة الصحيحة فقد وجدت أن الذي فتح لابن تيمية وابن القيم باب التورط في القول بفناء النار إنما هو بعض الآثار المروية عن بعض الصحابة والأحاديث المرفوعة جلها لا تصح أسانيدها وعمدتها منها وأبرزها أثر عمر رضي الله عنه : ( لو لبث أهل النار في النار قدر رمل عالج لكان لهم يوم يخرجون فيه ) وإن حاولا تقوية إسناده بتكلف ظاهر لمخالفة ذلك المقرر في علم مصطلح الحديث وقد بينه المؤلف رحمه الله بيانا شافيا لكنه قد تابع ابن القيم في السكوت عن أسانيد سائرها فاشترك معه في إيهام القراء ثبوتها ولا سيما وفي بعضها ما هو موضوع كحديث أنس وحديث أبي أمامة ( ص 82 ) وحديث جابر ( ص 84 ) وحديث أبي أمامة الآخر ( ص 138 ) .
إلى غير ذلك من الروايات الواهية كحديث أبي هريرة ( ص 115 ) وزاد المؤلف عليها أحاديث أخرى لكنها لم تبلغ مرتبة الوضع مع كونها لا علاقة لها مباشرة بالرد كحديث ابن مسعود وغيره ( ص 70 ) وحديث الجهني ( ص 103 ) وحديث أبي الدرداء ( ص 134 ) وغيرها مما قد يكون فيها ما هو صحيح ثابت لا يتميز عند القارئ بعضها من بعض لدخولها كلها في دائرة المسكوت عنه
من أجل ذلك رأيت من واجبي أن أبين في التعليق مراتب تلك الأحاديث وأميز صحيحها من سقيمها وضعيفها من موضوعها ليكون القراء الكرام على هدى من أمرها راجيا أن يشاركوني في هذه العبرة وأن تكون حافزا لهم على أن يتذكروا معي حقيقة علمية منهجية هامة طالما أهمل القيام بها جماهير العلماء والكتاب قديما وحديثا ولم يقم بحقها سوى أفراد منهم قليلين جدا ألا وهي :
أنه يجب على كل باحث أو كاتب في موضوع شرعي يقوم على الاستدلال بعض الأحاديث المروية عنه صلى الله عليه وسلم .
أن يضع تلك الأحاديث بين يديه ويجري عليها تحقيقا دقيقا لمعرفة درجتها صحة وضعفا فما كان منها صحيحا احتفظ به واعتمده .
وما كان ضعيفا نظر فإن كان شديد الضعف أهمله مطلقا وتركه وإلا احتفظ به كشاهد مع التنبيه على ذلك ثم يتجه بعد هذه التصفية إلى البحث الذي هو في صدده فيحرره ويستدل له بما صح من الأحاديث ويتفقه فيها .
واعلم يا أخي المسلم أن كل من لم ينهج هذا النهج العلمي الصحيح في بحثه فلن يصل إلى الصواب الذي ينشده إلا رمية من غير رام بل هو على الغالب ينتهي الأمر به إلى انحرافات خطيرة لا ينجيه من الوقوع فيها أنهم كانوا غير قاصدين لها ما دام أنهم لا يسلكوا السبيل التي تحفظهم من ذلك وقد قيل :
ترجو النجاة ولم تسلك مسالكها إن السفينة لا تجري على اليبس
ولعله مما لا خفاء به أن من لم ينهج هذا النهج العلمي وأهمله فإنه معرض لأن يؤاخذه ربه لأنه قضى ما لا علم له به وقد قال تعالى في كتابه : { ولا تقف ما ليس لك به علم إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسؤولا } .
وقال صلى الله عليه وسلم في حديث ( قاضيان في النار ) : ( . . . ورجل قضى للناس على جهل فهو في النار ) .
رواه أصحاب السنن وغيره وهو مخرج في ( إرواء الغليل ) برقم ( 2614 ) .
وهذا بخلاف ما لو تبنى هذا المنهج في بحثه وضم إليه - طبعا - مما لا بد من المعرفة باللغة وأصول الفقه وغيره فهو مأجور ولو أخطأ لقوله صلى الله عليه وسلم :
( إذا حكم الحاكم ثم أصاب فله أجران وإذا حكم فاجتهد ثم أخطأ فله أجر واحد ) .
أخرجه الشيخان وغيرهما وهو مخرج في ( الإرواء ) برقم ( 2598 ) .
وأنا حين أذكر بهذا الواجب أعلم _ والأسف يملأ قلبي - أنه لا يستطيع القيامة به إذا القليل جدا من العلماء المستقلين لانصراف الجماهير منهم عن دراسة أصول الحديث وتراجم رواته وتاريخهم الأمر الذي لا بد منه لكل من يريد التمكن من تمييز الحديث الصحيح من الضعيف بنفسه مع التوسع في تتبع طرق الحديث وشواهده من مختلف المصادر الحديثية المطبوعة منها والمخطوطة مقرونا بالصبر والأناة وعدم الاستعجال في إصدار الأحكام كما يفعل بعض الناشئة اليوم .
غير أن هذا لا يعني إعفاءهم من واجب الاستعانة على التمييز بأهل العلم بذلك والمتخصصين فيه كما يستعين الجاهل بالفقه مثلا بالفقهاء - ولا أقول المتفقهة - فيسألهم عن كل ما نزل به أو ما كان بحاجة إلى معرفته إعمالا لقول ربه : { فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون } وتجاوبا مع حديث نبيه : ( ألا سألوا حين جهلوا فإنما شفاء العي السؤال ) .
رواه أبو داود وغيره وهو مخرج في ( صحيح أبي داود ) ( 364 ) .
وذلك كله يكون إما بسؤالهم مباشرة وجها لوجه إن تيسر وإما بالرجوع إلى كتبهم وهو متيسر والحمد لله وقد كنت ذكرت طائفة من الكتب الحديثية التي تساعد الباحث على القيام بهذا الواجب في مقدمة ( سلسلة الأحاديث الضعيفة ) فليرجع إليه من شاء .
هذا وعلاوة على تخريج أحاديث الرسالة وتمييز صحيحها من ضعيفها فقد قمت بتعليقات أخرى مفيدة إن شاء الله تعالى وترجمت لبعض الأعلام كما خرجت كل الآيات الكريمة الواردة فيها واجتهدت في تصحيح بعض الأخطاء التي وقعت فيها وإملاء الفراغات التي نتجت من تسلط الأرضة على نسختها حتى ذهب منها بعض الألفاظ إما بالرجوع إلى الأصل الذي نقل عنه المصنف وإما بالنظر في السباق والسياق ونبهت على ذلك غالبا بوضع المستدرك بين معكوفتين [ ] راجيا من الله تعالى أن ييسر لنا الوقوف على نسخة أخرى نستعين بها على تدارك ذلك على الوجه الأكمل في طبعة أخرى إن شاء الله تعالى .
فاللهم آت نفوسنا تقواها وزكها أنت خير من زكاها أنت وليها ومولاها واحفظها من شر الفتن ما ظهر منها وما بطن وإذا أردت بعبادك فتنة فاقبضنا إليك غير مفتونين .
والله تعالى أسأل أن يتقبل مني عملي هذا وأن يجعله خالصا لوجهه الكريم وأن يكشف عني ما أهمني ويرفع عن المسلمين جميعا ما هم فيه من البلاء وتسلط الأعداء إنه سميع مجيب .
وسبحانك الله وبحمد أشهد أن لا إله إلا أنت استغفرك وأتوب إليك .
بيروت 21 ذي الحجة سنة 1401 ه .
محمد ناصر الدين الألباني
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي ليس سواه واجب الوجود الذي وعد الذين سعدوا بدوام النعيم في جنات الخلود وتوعد الذي شقوا بالأبدية في النار ذات الوقود وأخبر أنه مبدلهم جلودا ليذوقوا العذاب كلما نضجت منهم الجلود وأشهد أن لا إله إلا الله شهادة تدافع عن قائلها إذا كانت الأعضاء هي الشهود وأشهد أن محمدا عبده ورسوله صاحب المقام المحمود في يوم مجموع له الناس وذلك يوم مشهود صلى الله عليه وعلى آله الركع السجود .
وبعد فإن السائل أدام الله له التوفيق وسلك لنا وبه مناهج ذوي التحقيق طلب كشف الأستار عن وجه مسألة فناء النار ودخول المشركين من أهلها مداخل الأبرار . وهذه المسالة من غرائب المسائل ومما خلت عنها أسفار المقالات الحوافل وأشار إليها السيد الإمام محمد بن إبراهيم رحمه الله في ( الإيثار ) وقال :
( وقد أفردت في هذه المسألة مصنفات حافلة منها لابن تيمية ومنها لتلميذه شمس الدين ومنها للذهبي ومنها لي ) هذا لفظه .
ولم أقف على غير ما في ( حادي الأرواح ) ولعل الله سبحانه يعين بالوقوف على مؤلف الذهبي والسيد محمد بمنه وفضله .
وحيث استكشف السائل عن حقيقتها وما عليها من الدلائل تعين [ علينا ] أن نكشف عن وجوه أدلتها النقاب ونبرز المطوي تحت لثامها بعيون أذهان أولي الألباب ونستوفي فيها المقال وإن خرجنا عن الإيجاز إلى الإطناب والإسهاب لأنه عز وجود ما ألف فيها فيحال عليه ولا أعرف فيها منازعا لمدعيها فأرشد إليه .
وليعتذر السائل عن تأخر الجواب فإنه لم يكن استخفافا بالسائل ولا تحقيرا للمسائل بل لما يتواثب على القلوب من الاشتغال . ولم يزل التسويف حتى تقضت أيام وليال فنقول :
اعلم أن هذه المسألة أشار إليها الإمام الرازي في مفاتيح ( الغيب ) ولم يتكلم عليها بدليل نفي ولا إثبات ولا نسبها إلى قائل معين ولكنه استوفى المقال فيها العلامة ابن القيم في كتابه ( حادي الأرواح إلى ديار الأفراح ) نقلا عن شيخه العلامة شيخ الإسلام أبي العباس ابن تيمية فإنه حامل لوائها ومشيد بنائها وحاشد خيل الأدلة منها ورجلها ودقها وجلها وكثيرها وقليلها وأقر كلامه تلميذه ابن القيم وقال في آخرها : ( إنها مسألة أكبر من الدنيا وما فيها بأضعاف مضاعفة ) هذا كلامه في آخر المسألة في ( حادي الأرواح ) وإن كان في ( الهدي النبوي ) أشار إشارة محتملة لخلاف ذلك حيث قال :
( ولما كان المشرك خبيث العنصر خبيث الذات لم تطهر النار خبثه بل لو أخرج منها عاد [ خبيثا ] وكما كان كالكلب إذا دخل البحر ثم خرج منه وقد حرم الله عليه الجنة ) انتهى كلامه .
قلت وحيث كانت بهذه المثابة التي ذكرها من أنها أكبر من الدنيا فلا غنى لنا عن نقل أدلتها التي ارتضاها ابن تيمية وتعقب كل دليل بما يفتح الله به من إقراره أو بيان اختلاله فنقول :
قال ابن القيم بعد نقله لأقوال الناس والمعروفة في كتب المقالات :
( السابع : قول من يقول بل يفنيها ( أي النار ) خالقها تبارك وتعالى فإنه جعل لها أمدا تنتهي إليه ثم تفنى ويزول عذابها ) .
يريد ويدخل الله من كان فيها من الكفار الجنة كما ستعرفه من الأدلة التي ذكرنا - ثم قال :
[ قال ] شيخ الإسلام ( يريد به شيخه أبا العباس ابن تيمية ) : وقد نقل هذا القول عن عمر وابن مسعود وأبي هريرة وأبي سعيد وغيرهم ) .
ثم ساق بسنده إلى الحسن البصري أنه قال : قال عمر : ( لو لبث أهل النار كقدر رمل عالج لكان لهم [ على ذلك ] يوم يخرجون فيه ) . وفي رواية ( عدد رمل عالج ) قال ابن تيمية : ( والحسن وإن لم يسمع من عمر فلو لم يصح عنده عن عمر لم يجزم به ) . انتهى كلامه .
وأقول فيه شيئان :
الأول : من حيث الرواية فإنه منقطع لنص شيخ الإسلام بأنه لم يسمعه الحسن من عمر واعتذاره بأنه لو لم يصح للحسن عن عمر لما جزم به يلزم أن يجري في كل مقطوع يجزم به راويه ولا يقول هذا أئمة الحديث كما عرفت في قواعد أصول الحديث بل الانقطاع عندهم علة والجزم معه تدليس وهو علة أخرى ولا يقوم بمثل ذلك الاستدلال في مسألة فرعية كيف في مسألة قيل أنها أكبر من الدنيا بأضعاف مضاعفة وهذا البخاري أمير المؤمنين في علم الحديث وأشدهم تحريا في الصحيح لم يقل النقادون بأن تعاليقه المجزومة التي أودعها في كتابه الذي سماه ( الصحيح ) صحيحة بل فيها الضعيف كما نص عليه ابن حجر في مقدمة ( الفتح ) .
والحسن البصري معروف عند أئمة هذا الشأن بأنه لا يؤخذ بمراسيله . قال الدارقطني في ( السنن ) وقد روى عاصم الأحول عن ابن سيرين وكان عالما بأبي العالية وبالحسن . قال : ( لا تأخذوا بمراسيل الحسن ولا أبي العالية فإنهما لا يباليان عمن أخذا عنه ) . انتهى .
قلت ثم قال ابن تيمية ولو كان كلام عمر هذا غير صحيح لما تداولته الأئمة ولوجب إنكارهم له لمخالفته الإجماع والكتاب والسنة ) .
قلت : يقال : كلام عمر كغيره من الأقوال الدالة على خروج الموحدين من النار وهو قول عليه جماهير الأئمة منهم ابن تيمية وستعرف أنه لا يصح أثر عمر إلا على تقدير أنه أراد به . الموحدين وأنه يتعين حمله على ذلك عند شيخ الإسلام نفسه وعند غيره .
والثاني من حيث الدراية فإنه لو ثبت صحته عن عمر لم يدل على المدعى فإن أصل المدعى هو : فناء النار وأن لها مدة تنتهي إليها . وليس في أثر عمر هذا إلا أنه يخرج أهل النار من النار والخروج لا يكون إلا وهي باقية فإنك لو قلت : لو لبث زيد في الدار كذا وكذا ثم خرج منها لم يدل هذا على فناء الدار لا مطابقة ولا تضمنا ولا التزاما . فإن قيل : بل هو يدل على فنائها التزاما لأنه تعالى إنما خلقها ليعذب بها من عصاه فبعد خروجهم لم يبق لها حاجة فالحكمة تقتضي فناءها .
قلت هذا دور فإنه لا يثبت أن الحكمة يقتضي فناءها إلا إذا لم يبق فيها أحد ولا يخرج أحد من أهلها إلا بعد فنائها كما تسمع تصريح ابن تيمية بذلك حيث قال :
( وأما [ كون ] الكفار لا يخرجون منها ولا يخفف عنهم من عذابها ولا يقضي عليهم فيموتوا ولا يدخلون الجنة حتى يلج الجمل في سم الخياط فلم يختلف في ذلك الصحابة ولا التابعون ولا أهل السنة وهذه النصوص وأمثالها تقتضي خلودهم في دار العذاب ما دامت باقية ولا يخرجون منها مع بقائها البتة ) . هذا لفظه .
وإذا عرفت مراده عرفت أن أثر عمر لا يدل على مدعاه بشيء من الدلالات الثابتة فإنه قال : ( إنهم يخرجون منها ) وهذا واضح في الخروج منها وهي باقية فلا بد من حمل أثره على معنى صحيح إذ لا يصح حمله على خروج الكفار عند أحد لا ابن تيمية كما عرفت ولا غيره فإنه لا يقول أحد بخروج الكفار من النار فإن صح أثر عمر حمل على أنه أراد خروج الموحدين الذين استحقوا دخول النار بذنوبهم كما دلت عليه الأدلة المعروفة الصحيحة الصريحة التي لا مرية في صحتها .
إلا أن ابن تيمية منع من حمل كلام عمر على ذلك وقال :
( إنما أراد عمر بأهل النار الذين هم أهلها ( وهم الكفار ) : وأما قوم أصيبوا بذنوبهم فقد علم هؤلاء وغيرهم أنهم يخرجون منها ولا يلبثون قدر رمل عالج ولا قريبا منه ) .
فأقول : ولا يخفى ضعف هذا الرد لأن كونهم قد علموا ذلك لا يمنع أن يؤدوه لمن لا يعلمه ويخبروا أنه اعتقادهم وقد علم في فن البيان : أن الإخبار يكون بفائدة الحكم أو لازمها فعلم السامعين بالحكم لا يمنع عن التكلم به وإلقائه إليهم وأما كون عصاة الموحدين لا يلبثون قدر رمل عالج ولا قريبا منه فمسلم ولم يقل عمر أنهم يلبثون قدر رمل عالج بل أتى بقضية شرطية فقال : ( لو لبث ) أي : أنه لو طال لبثهم ذلك القدر لخرجوا ولا دليل في كلامه أنهم يلبثون ذلك القدر فعرفت أيضا غير مانع عن حمل أثر عمر على عصاة الموحدين مع أنه لا يصح حمله على الكفار لأنهم يلبثون أكثر من عدد رمل عالج فقد أخرج الطبراني في ( الكبير ) من حديث ابن مسعود مرفوعا :
( موضوع ) ( لو قيل لأهل النار إنكم ماكثون في النار عدد كل حصاة في الدنيا لفرحوا . . . ) الحديث .
ومما سمعت تعين حمل أثر عمر على عصاة الموحدين عند شيخ الإسلام وعند جميع علماء الأنام .
وإذا عرفت هذا طال تعجبك من نسبة ابن تيمية القول بفناء النار إلى عمر واستدلاله لذلك بهذا الأثر المنقطع رواية الذي هو بمراحل عن الدلالة من حيث الدراية .
تنبيه : وأما مدة لبث عصاة الموحدين فإنها مختلفة فقد أخرج ابن أبي حاتم وابن شاهين في ( السنة ) من حديث علي يرفعه ( إن أصحاب الكبائر من موحدي الأمم كلها الذين ماتوا على كبائرهم غير نادمين ولا تائبين . ( وفيه ) : أن منهم من يمكث شهرا ثم يخرج منها ومنهم من يمكث سنة ثم يخرج منها وأطولهم فيها مكثا بقدر الدنيا منذ خلقت إلى أن تفنى ) .
ومثله [ ما ] أخرج الحكيم في ( نوادر الأصول ) ولفظه ( وأطولهم فيها مكثا مثل الدنيا منذ خلقت إلى أن فنيت وذلك سبعة آلاف سنة ) .
ثم قال شيخ الإسلام مستدلا على فناء النار بما رواه على ابن أبي طلحة في ( تفسيره ) عن ابن عباس أنه قال : ( لا ينبغي لأحد أن يحكم على الله في خلقه ولا ينزلهم جنة ولا نارا ) .
وأقول : لا يخفى على ناظر أنه لا دلالة في هذا الأثر ولا رائحة دلالة على المدعى من فناء النار بل غاية ما يفيده الإخبار عن أنه لا يجزم للمؤمن أنه من أهل الجنة ولا العاص من عصاة المؤمنين أنه من أهل النار . وهذا المعنى ثابت في الأحاديث النبوية الصحيحة .
فقد أخرج الترمذي من حديث أنس أنه توفي رجل فقال رجل آخر ورسول الله صلى الله عليه وسلم وآله وسلم يسمع : أبشر بالجنة . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( وما يدريك لعله تكلم بما لا يعنيه أو بخل بما لا ينقصه ) . بل ورد في الطفل الذي لا تكليف عليه نحو ذلك .
وقد صرح ابن القيم في آخر كتابه ( حادي الأرواح ) في الباب السبعون فيما زعم أنه عقيدة أهل السنة وعقيدة الصحابة وأهل العلم وأصحاب الأثر بأنه لا يشهد لأحد من أهل القبلة أنه من أهل النار لذنب عمله ولا لكبيرة أتاها إلا أن يكون ذلك في حديث وأن لا يشهد لأحد أنه في الجنة بصالح عمله إلا أن يكون ذلك في حديث . انتهى .
فهذا هو الذي أراده ابن عباس ولو لم
مواضيع مماثلة
» من صفحة 1ألى ص20 من كتاب. رفع الأستار لإبطال أدلة القائلين بفناء النار .محمد بن إسماعيل الأمير الصنعاني .العلامة المحدث محمد ناصر الدين الألباني
» {باقي الكتاب} من كتاب. رفع الأستار لإبطال أدلة القائلين بفناء النار .محمد بن إسماعيل الأمير الصنعاني .العلامة المحدث محمد ناصر الدين الألباني
» إصلاح المساجد من البدع والعوائد:تأليف علامة الشام محمد جمال الدين القاسمي..خرج أحادثه وعلق عليه محمد ناصر الدين الألباني
» فتنة التكفيرللشيخ المحدّث العلامة: محمد ناصر الدين الألباني –رحمه الله-
» صفة الفتوى والمفتي والمستفتي للإمام أحمد بن حمدان الحراني الحنبلي .تحقيق : محمد ناصر الدين الألباني
» {باقي الكتاب} من كتاب. رفع الأستار لإبطال أدلة القائلين بفناء النار .محمد بن إسماعيل الأمير الصنعاني .العلامة المحدث محمد ناصر الدين الألباني
» إصلاح المساجد من البدع والعوائد:تأليف علامة الشام محمد جمال الدين القاسمي..خرج أحادثه وعلق عليه محمد ناصر الدين الألباني
» فتنة التكفيرللشيخ المحدّث العلامة: محمد ناصر الدين الألباني –رحمه الله-
» صفة الفتوى والمفتي والمستفتي للإمام أحمد بن حمدان الحراني الحنبلي .تحقيق : محمد ناصر الدين الألباني
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى