هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.

{باقي الكتاب} من كتاب. رفع الأستار لإبطال أدلة القائلين بفناء النار .محمد بن إسماعيل الأمير الصنعاني .العلامة المحدث محمد ناصر الدين الألباني

اذهب الى الأسفل

 {باقي الكتاب}  من كتاب. رفع الأستار لإبطال أدلة القائلين بفناء النار .محمد بن إسماعيل الأمير الصنعاني .العلامة المحدث محمد ناصر الدين الألباني Empty {باقي الكتاب} من كتاب. رفع الأستار لإبطال أدلة القائلين بفناء النار .محمد بن إسماعيل الأمير الصنعاني .العلامة المحدث محمد ناصر الدين الألباني

مُساهمة من طرف المدير الأحد أبريل 01, 2012 12:02 am

وأما الثاني : ( فهو ) محمول على أن أهل الجنة لهم سوى نعيمها ما هو أجل وأكبر وهو رضوان الله عز وجل وبقاؤه لا على أن فيهم بعضا يخرج انتهى .
ولا يخفى أن كلامه في الاستثناء الثاني هو كلام صاحب ( الكشاف ) بعينه وأنه يرد عليه ما أورده صاحب ( الإتحاف ) وقد سبق لنا رده كما عرفت وهكذا يرد عليه ما أورده صاحب ( الكشاف ) كما سبق قريبا أيضا فالأحسن أن يقال : أن الاستثناء في آية الجنة من باب { حتى يلج الجمل في سم الخياط } تقييد بالمحال وأن من دخل الجنة لا يخرج منها أبدا بدليل الاجتماع المعلوم ضرورة من الدين وبدليل قوله تعالى : { عطاء غير مجذوذ } وفي آية أهل النار محمول على ما ذكر من خروج الموحدين ولا يقال : أن هذا يوجب اختلاف في نظم الكلام حيث عدل بالاستثناء الثاني عما حمل عليه الاستثناء الأول مع أنهما سيقا مساقا واحدا لأنا نقول : قد دفع الشريف هذا الإيراد لأنه ورد ما وينهي إليه بقوله : الأول محمول على الظاهر وقد عدل بالثاني عنه بقرينة واضحة مما ذكرنا فلا إشكال ولا اختلاف .
إذا عرفت حقيقة هذه الأقوال التي حققها الاستدلال وأساطين المفسرين وعيون العيون من المحققين عرفت أن آية الاستثناء كما قال صاحب ( الكشاف ) من المعضلات وقد اختلفت فيه كما رأيت أذهان المحققين الأثبات وقد سبق قول ابن القيم في آية الاستثناء في أهل الجنة أنه على كل تقدير أن الاستثناء فيه من المتشابه وأن المحكم قوله تعالى : { عطاء غير مجذوذ } [ هود : 108 ] و{ ظلها دائم } وآيات الخلود التي وردت في الكتاب العزيز فلك أن تقول بغير هذا القول في آية الاستثناء في أهل النار أنه من المتشابه وأن المحكم { خالدين فيها } { وما هم منها بمخرجين } [ الحجر : 48 ] والآيات المصرحة بخلود أهل النار في القرآن كثيرة جدا وسيأتي عد بعضها فيرد المتشابه وهي آية الاستثناء إلى المحكم وقد حكم الله بخلود أهل النار في النار وتواترت الأحاديث بإخراج عصاة الموحدين وقد ورد الاستثناء فلا ندري ما أراد الله هل بإخراج العصاة من الموحدين كما قال جماهير أهل السنة وهو المروي عن ابن عباس كما أسلفناه عنه أو هو قريب أو هو عين المراد . أو أراد به أمرا استأثر الله بعلمه فنقول : { آمنا بالله كل من عند ربنا } [ آل عمران : 76 ] وقد أخرج عبد الرزاق وابن جرير وابن أبي حاتم عن قتادة في قوله تعالى : { إلا ما شاء ربك } فإن الله أعلم ثنيته على ما وقعت وأخرج ابن جرير عن ابن زيد قال : قد أخبرنا الله بالذي شاء لأهل الجنة فقال : { عطاء غير مجذوذ } ولم يخبرنا بالذي شاء لأهل النار وأخرج ابن المنذر عن أبي وائل أنه كان إذا سئل عن الشيء في القرآن قال قد أصاب الله به الذي أراده .
هذا وإذا عرفت ما ألقينا عليك عرفت أنه لم يتم ما ادعاه ابن تيمية في الآية . وأنه أريد بالاستثناء فناء أهل النار فإنه قول في الآية بلا دليل ولا قال به من السلف أحد ولا من الخلف وأنه ليس في يد شيخ الإسلام شيء لا من كتاب ولا من سنة ولا من صحابي كما قررناه فليس في يديه إلا دعوى بغير برهان لا يقول فيها دون دق الشأن ولا يعتمد عليها أهل الإتقان وعرفت أنه ما صفا قول قائل في الاستثناء في آية أهل النار عن كدر الإشكال وأن الأقوال فيه كلها أراء محضة إلا القول بأنه أريد به عصاة الموحدين فإنه قول قويم قد قاله بحر الأئمة وحبرها المدعو له بتعليم التأويل ابن عباس كما أسلفناه ودلت عليه أدلة أثرية وقرائن قرآنية فالقول به قويم ولا يدخل تحت التفسير بالرأي الذي ورد الوعيد على ( من قال في القرآن برأيه ) . فلا يقال إنه يتعين الوقف عن ذلك الخوض والإيمان بما أراده الله ورد علمه إليه .
ثم استدل شيخ الإسلام على سعة رحمة الله تعالى أنها أدركت أقواما ما فعلوا خيرا وساق أحاديث دالة على أن الرحمة أدركت من كان من عصاة الموحدين كما ستعرفه وليس من محل النزاع .
فمن الأدلة التي ساقها على مدعاه قصة الذي أمر أهله أن يحرقوه ويذروه في الرياح في البر والبحر خشية أن يعذبه الله قال : ( فقد شك في المعاد فأحياه الله تعالى قال فهذا لم يعمل خيرا قط وأدركته رحمة الله تعالى ) .
وأقول هذا ليس من محل النزاع فهذا مؤمن بالله عالم بأن الله يعذب من عصاه وقد وقع من خوفه وخشية أمره بتحريقه ففي قلبه خير . وإن لم يعمل خيرا قط . ولذلك الخير أدركته رحمة الله .
واستدل أيضا على مدعاه بما أخرجه أحمد في ( مسنده ) من حديث الأسود بن سريع مرفوعا ( [ يأتي ] أربعة يوم القيامة : رجل أصم لا يسمع شيئا ورجل أحمق ورجل هرم ورجل مات في فترة أما الأصم فيقول : رب قد جاء الإسلام وما أسمع شيئا وأما الأحمق فيقول : رب جاء الإسلام والصبيان يحذفوني بالبعر وأما الهرم فيقول : رب جاء الإسلام وما أعقل شيئا وأما الذي مات في الفترة فيقول : رب ما أتاني من رسول فيأخذ مواثيقهم ليطيعنه فيرسل عليهم ليدخلوا النار قال : فوالذي نفسي بيده لو دخلوها لكانت عليهم بردا وسلاما ) .
وأقول ليس الحديث أيضا في محل النزاع إذ هو في فناء النار ودخول أهلها الجنة وهؤلاء الثلاثة الأولون ليسوا بمشركين فإنهم كانوا في دار الدنيا غير مكلفين فلم يتحقق منهم أنهم كانوا مشركين وليسوا ممن دخل النار ثم فنيت وهم فيها : والرابع الذي مات في الفترة مخاطب بشرع من قبله بنص قوله تعالى : { وإن من أمة إلا خلا فيها نذير } [ فاطر : 24 ] والحديث لم يذكره شيخ الإسلام بتمامه وهو حديث مشكل ( * ) ولا حاجة لنا إلى الكلام عليه بعد بيان أنه ليس من محل النزاع .
ثم استدل شيخ الإسلام بحديث رواه ابن المبارك من حديث أبي  هريرة مرفوعا : أن رجلين دخلا النار واشتد صياحهما فقال الرب جل جلاله أخرجوهما فقال لأي شيء اشتد صياحكما فقالا : فعلنا ذلك لترحمنا . فقال : رحمتي لكما أن تنطلقا فتلقيا أنفسكما في النار . فيلقي أحدهما نفسه فيجعلها عليه بردا وسلاما ويقوم الآخر فلا يلقي فيقول له الرب : ما منعك أن تلقي نفسك ] كما ألقى صاحبك ؟ فيقول : رب إني أرجو أنك لا تعيدني فيها بعد أن أخرجتني منها . فيقول : لك رجاؤك فيدخلان جميعا الجنة برحمة الله ) .
وأقول : هذا كما تراه في إخراج العصاة من الموحدين فإنه لا يقول ابن تيمية أن يخرج الكفار من النار كما يقول غيره .
ثم ساق حديثا ثالثا مثل هذا الحديث ليس من محل النزاع .
ثم تعرض لأدلة القائلين بعدم فناء النار فقال : ( لهم ست طرق أحدها الإجماع على عدم فنائها ) قال : ( والإجماع غير معلوم إنما يظنه في هذه المسألة من لم يعرف النزاع فيها وقد عرفت النزاع قديما وحديثا قال : ( ولو كلف مدعي الإجماع أن ينقل عن عشرة من الصحابة فما دونهم أنه قال النار لا تفنى لم يجد إلى ذلك سبيلا ) ونحن قد نقلنا عنهم التصريح بخلاف ذلك فما وجدنا عن واحد منهم خلاف ذلك .
وأقول : قد عرفت أنه نقل عن ستة من الصحابة عبارات لا تدل على مدعاه وهو فناء النار بنوع من الدلالات كما أوضحناه ولا يصح نسبته لتلك الدعوى إلى واحد من أولئك الستة فلم يوجد لأحد مما وجدنا عن واحد من الصحابة أنه يقول بفناء النار كما أنه لا يوجد قائل من الصحابة أنه يقول بعدم فناء النار فإن هذه المسألة وهي فناء النار لا تعرف في عصر الصحابة ولا دارت بينهم فليس نفي ولا إثبات بل الذي عرفوه فيها هو ما في الكتاب والسنة من خلود أهل النار أبدا وأن أهلها ليسوا منها بمخرجين وعرفوا ما ثبت من خروج عصاة الموحدين .
إذا عرفت هذا عرفت أن دعوى فناء النار أو عدم فنائها قول للصحابة دعوى باطلة إذ هذه الدعوى لا توجد في عصرهم حتى يجمعوا عليها نفيا أو إثباتا نعم القول الذي دل عليه القرآن من خلود النار أهلها فيها أبدا يتضمن القول عنهم بما تضمنه القرآن ودل عليه الأصل فيما أخبر الله به عن الدارين الأخروين البقاء فلا يحتاج مدعي عدم الفناء إلى الدليل على ذلك الأصل ثم قال :
( الثاني ( أي من الستة الأدلة للقائلين بعدم الفناء ) أن القرآن دل على ذلك دلالة قاطعة فإنه تعالى أخبر أنه { عذاب مقيم } [ المائدة : 37 ] وأنه { لا يفتر عنهم } [ الزخرف : 75 ] وأنه لا يزيدهم إلا عذابا وأنهم { خالدين فيها أبدا } وأنهم { وما هم بخارجين من النار } [ البقرة : 167 ] { وما هم منها بمخرجين } وإن الله حرم الجنة على الكافرين وأنهم { لن يدخلوا الجنة حتى يلج الجمل في سم الخياط } و{ أن عذابها كان غراما } [ الفرقان : 65 ] . قال : والجواب أن هذا كله مسلم وأنهم لا يخرجون منها وأنه لا يفتر عنهم العذاب ما دامت باقية وليس محل النزاع إنما محل النزاع لا تفنى النار قال : وهذه النصوص تقضي بخلودهم في النار ما دامت باقية ) هذا جوابه .
وأقول : قد عرفت أنه لا يتم هذا الجواب ما لم يؤخذ بأدلة ناهضة على فناء النار ولم يقم دليل على ذلك قال :
( الطريق الثالث ( من أدلة القائلين بعدم فناء النار ) : أن السنة المستفيضة أخبرت بخروج من في قلبه أدنى ذرة من إيمان دون الكفار فأحاديث الشفاعة كلها صريحة في خروج الموحدين دون الكافرين قال :
الجواب : أن هذا لا شك فيه وهو إنما يدل على ما قلناه من خروج الموحدين فيها وهي باقية ويبقى المشركون ما دامت باقية ) .
وأقول : الجواب ما سلف . ثم قال :
( الطريق الرابعة ( للقائلين بعدم فناء النار ) : أوقفنا الرسول على ذلك وعلمناه من دينه ضرورة كما علمنا دوام الجنة . وأجاب بأنه لا ريب أن الكفار باقون فيها ما دامت باقية هذا هو المعلوم من دينه ضرورة وأما كونها أبدية لا تفنى كالجنة . فمن أين في القرآن والسنة دليل واحد على ذلك ؟ ) .
وأقول : الدليل يتوجه على من ادعى الفناء ولم يأت شيخ الإسلام بشيء واحد والأصل هو خلود النار وأبديتها كما دل عليه الكتاب والسنة فلا يحتاج مدعي عدم الفناء إلى دليل آخر بعد هذا الأصل . قال :
( والدليل الخامس ( من أدلة القائلين بفناء النار ) : أن في عقائد أهل السنة أن الجنة والنار مخلوقتان لا يفنيان أبدا والقول بفنائها من أقوال أهل البدع . قال :
والجواب : أنه لا ريب أن القول بفنائها قول أهل البدع وأما القول بفناء النار وحدها فقد أوجدناكم من قال به من الصحابة وتفريقهم بين الجنة والنار فكيف تقولون : إنه من قول أهل البدع ؟ ) .
وأقول لأنه يصدق عليه رسم البدع ففي ( القاموس ) : ( البدعة بالكسر الحدث في الدين بعد الإكمال أو ما أحدث بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم من الأهواء والأعمال ) انتهى .
والمعلوم أنه لم يقع في ذلك العصر قول بفناء النار ودخول الكفار جنات تجري من تحتها الأنهار ولا أوجدنا شيخ الإسلام مع تبحره في العلوم وسعة اطلاعه على أقوال السلف والخلف على قول واحد من الصحابة بفناء النار ودخول الكفار الجنات . وإن كان كذلك فالقول به بدعة قطعا . قال :
( والدليل السادس ( للقائلين بعدم فناء النار ) : أن العقل يقضى بخلود الكفار : ثم قرر وجه الاستدلال بما حاصله أنه مبني على أن المعاد وإثابة النفوس المطيعة وعقوبة النفوس العاصية مما يعلم بالعقل كما يعلم بالسمع ( قال ) كما دل عليه القرآن في غير موضع كإنكاره تعالى على من زعم أنه يخلق خلقه عبثا وأنهم إليه لا يرجعون وأنه يتركهم سدى لا يثيبهم ولا يعاقبهم وأن ذلك يقدح في حكمته وكماله وأنه ينسبه إلى ما لا يليق ثم قرره تقريرا آخر . وأجاب عنه بقوله :
وأما حكم العقل بتخليد أهل النار فيها فإخبار عن العقل بما ليس عنده فإن المسألة من المسائل التي لا تعلم إلا بخبر الصادق ثم أن العقل دل على المعاد والثواب والعقاب إجمالا وأما تفصيلا فلا يعلم إلا بالسمع وقد دل السمع على دوام ثواب المطيعين وأما عقاب العصاة فدل دلالة قاطعة على انقطاعه في حق الموحدين وأما دوامه وانقطاعه في حق الكفار فهو من معترك النزال فمن كان السمع في جانبه فهو أعلم بالصواب ) .
قلت : وهو تحقيق حسن إلا أني لا أدري من الذين قالوا أن العقل حكم بخلود العصاة في النار فإن أشد الناس بهم الوعيدية والمعتزلة إلا القليل وأكثرهم قائلون بأن العقل يقضي بحسن العفو عن الكفار لولا ورود السمع بان الله لا يغفر أن يشرك به .
هذا وقد انتهت المناظرة التي ساقها ابن القيم عن شيخه شيخ الإسلام بين الفريقين . ومن له نباهة وهو من أولي الألباب لا يخفى عليه بعدما قررناه وجه الصواب .
ثم ساق شيخ الإسلام من الأدلة على مدعاه فقال مستدلا :
( إن الله خلق عباده على الفطرة وخلقهم حنفاء فلو خلوا وفطرهم لما نشئوا إلا على التوحيد . ( قال ) : والأشقياء غيروا الفطرة إلى ضدها واستمروا على ذلك التغيير ولم تغن عنهم الآيات والنذر في هذه الدار فأتاح الله لهم آيات أخر وأقضية وعقوبات فوق التي كانت في الدنيا يستخرج الخبث والنجاسة التي لا تزول بغير النار فإذا زال موجب العقاب وسببه زال العذاب وبقي مقتضى الرحمة لا معارض له ) . وأراد ( بمقتضى الرحمة ) الميثاق الذي أخذ عليهم بالإيمان وهم في عالم الذر .
وأقول : لا شك أنه يدخل النار من كفار الجن والشياطين أمم لا يحصون بل ربما يدعى أنهم أكثر من كفار بني آدم وما ذكره شيخ الإسلام من عود أهل النار بعد زوال خبيث الكفر إلى الفطرة والإقرار الذي كان في عالم الذر إن ساعدناه عليه ثم له في من أقر في عالم الذر بالربوبية من بني آدم لا غير ودعواه فناء النار وأن سكانها وأهلها يدخلون الجنة وهو حكم عام لكل من دخل النار والدليل خاص ببعض بني آدم وإنما قلناه : ( إن ساعدناه ) لأنه قد ثبت في الأحاديث أن الكفار لم تشملهم الفطرة . والإقرار بالربوبية في عالم الذر [ لم يكن ] إلا كرها فليس لهم حظ من فطرة الله التي فطر الناس عليها كما أخرجه أحمد والبخاري ومسلم من حديث أنس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
( يقال للرجل من أهل النار يوم القيامة أرأيت لو كان لك ما في الأرض أكنت مفتديا به ؟ فيقول : نعم . فيقول : قد أردت منك أهون من ذلك قد أخذت عليك في ظهر أبيك آدم أن لا تشرك بي شيئا فأبيت إلا أن تشرك بي ) والتعقيب بالفاء يشعر بأن الإباء كان عند أخذ الميثاق عليه وهو في ظهر أبيه [ أن ] لا يشرك في الدنيا ويوضح ذلك ما أخرج ابن عبد البر في ( التمهيد ) من طريق السدي عن أبي صالح عن ابن عباس وعن مرة الهمداني عن ابن مسعود وناس من الصحابة في الآية : أن الله مسح صفحة ظهر آدم فأخرج فيها ذرية بيضاء مثل اللؤلؤ كهيئة الذر ومسح صفحة ظهره اليسرى فأخرج منها ذرية سوداء كهيئة الذر فذلك قوله : { أصحاب اليمين ما أصحاب اليمين } [ الواقعة : 27 ] و{ أصحاب الشمال ما أصحاب الشمال } [ الواقعة : 41 ] ثم أخذ الميثاق فقال : { ألست بربكم قالوا بلى } [ الأعراف : 172 ] فأعطاها طائفة طائعين وطائفة كارهين على وجه التقية ( إلى أن قال : وذلك قوله تعالى : { وله أسلم من في السموات والأرض طوعا وكرها } [ آل عمران : 83 ] وهذا المعنى كثير في الأحاديث ومنه حديث الغلام الذي قتله الخضر أخرج مسلم وأبو داود والترمذي وعبد الله بن أحمد في ( زوائد المسند ) وابن مردويه عن [ أبي ] بن كعب عنه صلى الله عليه وسلم قال : ( الغلام الذي قتله الخضر طبع يوم طبع كافرا ولو أدرك لأرهق أبويه طغيانا وكفرا ) وأخرج سعيد بن منصور وابن مردويه عن ابن عباس مثله . نعم أحاديث كل مولود يولد على الفطرة وإنما أبواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه أحاديث ثابتة في الصحيحين وغيرهما وتفسير الفطرة بالدين منصوص عليه فلا بد من الجمع بين الأحاديث بتخصيص أحاديث الفطرة ونحوها وهي أحاديث كثيرة من الجانبين وهي كلها في بني آدم ثم لك أن تجمع بين أحاديث عموم الفطرة وحديث أنس الذي عند أحمد والشيخين الذي أسلفناه بأن نقول : الكل على الفطرة أي فطرة الإقرار بالتوحيد من أقر تقية كرها ومن أقر طوعا حقيقة كذلك فيتم العموم ثم إن المقرين تقية اجتالتهم الشياطين كما في لفظ الحديث وهودهم الآباء ونصروهم ومجسوهم واقتادوهم وانقادوا لهم وللشياطين لما في طبائعهم الخبيثة من أول وهلة حين أقروا تقية تجتمع الأحاديث والله أعلم .
ثم قال شيخ الإسلام :
( فإذا أخذت النار مأخذها منهم وحصلت الحكمة المطلوبة من عذابهم فإن العذاب لم يكن سدا وإنما كان لحكمة مطلوبة فإذا حصلت تلك الحكمة لم يبق في التعذيب أمر يطلب ) .
وأقول لم يقم شيخ الإسلام دليلا على أن الحكمة المطلوبة لله في تعذيب الكفار هي زوال النجاسة الكفرية وخبثه الذي لا يزول إلا بعذاب النار وإنما قال ذلك تظننا منه وتحسبا تفرع عن اعتقاده فناء النار وقد أورد على نفسه سؤالا فقال :
( إن قيل : سبب التعذيب لا يزول إلا إذا كان عارضا كمعاصي الموحدين أما ما كان لازما كالكفر والشرك فإن أثره لا يزول كما لا يزول السبب وقد أشار الله تعالى إلى ذلك فقال : { ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه } [ الأنعام 28 ] إخبارا بأن نفوسهم وطبائعهم لا تقبل غير الشرك وإنها غير قابلة للإيمان أصلا قال [ تعالى ] : { ومن كان في هذه أعمى فهو في الآخرة أعمى وأضل سبيلا } [ الإسراء : 72 ] فأخبر أن ضلالهم عن الهدى دائم لا يزول مع معاينتهم الحقائق التي أخبرت بها الرسل وقال : { لو علم الله فيهم خيرا لأسمعهم ولو أسمعهم لتولوا وهم معرضون } [ الأنفال : 23 ] فهذا يدلك على أنه ليس فيهم خير يقتضي الرحمة ولو كان فيهم خير لما ضيع [ عليهم ] أثر وهو يدل على أنه لا خير فيهم هنالك أيضا ) .
وأجاب بقوله : ( لعمر الله إن هذا أقوى ما يتمسك به في هذه المسألة ولكن هل هذا الكفر والخبث والتكذيب أمر ذاتي [ لهم ] زواله مستحيل أم هو أمر عارض طارئ على الفطرة قابل للزوال ؟ وليس بأيديكم ما يدل على استحالة زواله وأنه أمر ذاتي قد أخبر الله أنه فطر عباده على الحنفية وأن الشياطين اجتالتهم عنها فلم يفطرهم على الكفر والتكذيب وإنما فطرهم على الإقرار بخالقهم ومحبته وتوحيده وإذا كان هذا الحق الذي فطروا عليه قد أمكن زواله بالكفر والشرك كان زوال الكفر والشرك بضده أولى وأحرى ولا ريب [ أنهم ] لو ردوا على تلك الحال لعادوا لما نهوا عنه لكن من أين لكم أن تلك الحال لا تزول ولا تبدل بنشأة أخرى ينشؤهم عليها تبارك وتعالى .
أقول : قد دار جواب هذا الإيراد والذي أقر أنه من أقوى ما يتمسك به المخالف على أن الكفار مخلوقون على الفطرة أي فطرة الدين الحنيف وهو التوحيد وقد سمعت من حديث ابن عباس وابن مسعود وغيرهم أنها لم تشملهم الفطرة ولا وقع منهم الإقرار بالوحدانية في عالم الذر إلا تقية .
ثم هب أن الفطرة شاملة لبني آدم كما قال تعالى : { لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين } [ هود : 119 ] والفطرة إنما هي للناس كما في الآية والحديث : ( إنهم خلقوا حنفاء فاجتالتهم الشياطين ) . فإن ساعدناه على أن الناس مفطورون على التوحيد فيما يصنع بالجن والشياطين وهم من جملة من تفنى عنهم النار ويدخلون الجنة ؟ أيزعم أنهم مفطورون على التوحيد مخلوقون حنفاء ؟ فمن اجتالهم فإنهم هم الذين اجتالوا العباد . فهذا وارد على عمومهم الفطرة مع التسليم والمماشاة . وأما قوله : ( فمن أين لكم أنه لا يزول ) ؟
قلنا : من إخبار الله في الآيات التي ساقها في صدر السؤال ولعدم الدليل على زوال ما كانوا عليه . وكفى دليلا على عدم زوال نجاسة الكفر وخبث الشرك ودرن التكذيب بالنار قوله تعالى :
?????? ???? ?? ساقط من البرنامج ??????? ??????
ثم استدل على ذلك المدعى بأحاديث الشفاعة الثابتة في ( الصحيحين ) وغيرها وفيها ( أن الله يقبض قبضة من النار فيخرج منها قوما لم يعملوا خيرا قط ) قال :
فهذا يدل على إخراج قوم لم يكن في قلوبهم خير قط كما يدل له السياق فإن لفظ الحديث هكذا : ( أخرجوا من في قلبه مثقال ذرة من خير فيخرجون خلقا كثيرا ثم يقولون : ربنا لم نذر فيها خيرا فيقول الله : شفعت الملائكة وشفعت النبيون وشفعت المؤمنون ولم يبق إلا أرحم الراحمين فيقبض قبضة . . . ) الحديث قال :
( فهذا السياق يدل على أن هؤلاء لم يكن في قلوبهم مثقال ذرة من خير ومع هذا فأخرجتهم الرحمة ) .
أقول : الحديث ليس من محل النزاع فإنه في إخراج أقوام من النار وهي باقية وقد قرر شيخ الإسلام فيما سلف أنه لا يخرج منها الكفار وهي باقية وإن كان إنما استدل به عليه بعموم الرحمة .
ثم يقال : الحديث دل على أن الملائكة أخرجت من علمت في قلبه مثقال ذرة من خير ولا دليل أنهم يعلمون كل من في قلبه مثقال ذرة من خير فإنهم لا يعلمون من أحوال القلوب إلا ما أعلمهم الله كما قال تعالى : { يعلمون ما تفعلون } [ الانفطار : 12 ] فهم يعلمون أفعالنا لا ما انطوت عليه قلوبنا ولهذا وردت الأحاديث أنهم يصعدون بالعمل يرونه حسنا ويرد فيقول الله أن فاعله أراد به كذا وكذا أي من الرياء ونحوه فأخرج البزار والطبراني في ( الأوسط ) والدارقطني والأصبهاني في ( الترغيب والترهيب ) من حديث أنس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( يؤتى يوم القيامة بصحف مختمة فتنتصب بين يدي الله فيقول : ألقوا هذه واقبلوا هذه . فتقول الملائكة وعزتك ما كتبنا إلا ما عمل . فيقول الله أن هذا كان لغير وجهي وأنا لا أقبل اليوم إلا ما ابتغي به وجهي ) .
وهذا الحديث فيه الإخبار بأن الملائكة قالت : ( لم نذر فيها خيرا ) أي : أحدا فيه خير والمراد ما علموه بإعلام الله . ويجوز أن يقال لم يعلمهم بكل من في قلبه خير وأنه بقي من أخرجهم بقبضته ويدل له أن لفظ الحديث ( أنه أخرج بالقبضة من لم يعملوا خيرا قط ) فنفى العمل ولم ينف الاعتقاد وفي حديث الشفاعة تصريح بإخراج قوم لم يعملوا خيرا قط ويفيد مفهومه أن في قلوبهم خيرا . ثم سياق الحديث يدل على أنه أريد بهم أهل التوحيد لأنه تعالى ذكر الشفاعة للملائكة والأنبياء والمؤمنين ومعلوم أن هؤلاء يشفعون بعصاة أهل التوحيد . فإنه لا يقول ابن تيمية ولا غيره أنه يشفع للكفار بقرائن القبض التي قبضها الرب في عصاة الموحدين والأليق بالسياق أنها أيضا فيهم وقد أخرج البيهقي في الشفاعة من حديث جابر مرفوعا وفيه : ( اذهبوا فمن وجدتم في قلبه مثقال حبة من خردل من إيمان فاخرجوا ( إلى أن قال ) ثم يقول الله تعالى : الآن أخرجوا بعلمي وحلمي فيخرج أضعاف ما أخرجوا وأضعافه ) . فقوله تعالى : ( بعلمي ) يدل على أنه علم قوما في قلوبهم الخير لم تعلمهم الملائكة . وهب أنا ساعدناه وأن تعالى أخرج قوما من الكفار من النار أين هذا من محل النزاع وهو فناء النار وإدخال من كان فيها من الكفار الجنة ؟
ثم قال شيخ الإسلام مستدلا أيضا :
( إن العبد إذا اعترف بذنوبه حقيقة الاعتراف المتضمن لنسبة السوء والظلم واللوم إليه والحمد والرحمة والكمال المطلق لربه وفي كل وقت يستعطف ربه ويستدعي رحمته وإذا أراد الله أن يرحم عبده ألقى ذلك في قلبه لا سيما إذا اقترن بذلك عزم العبد على ترك المعاودة وعلم الله ذلك من داخل قلبه وسويدائه فإنه لا يختلف عن الرحمة فإذا علمت تلك النفوس الخبيثة أن العذاب أولى لها وأنه لا يليق بها سواه ولا تصلح إلا له فقد ذابت تلك الخبائث وتلاشت وتبدلت وبذل وانكسار وثناء على رب العالمين تبارك وتعالى - لم يكن في حكمته أن يستمر العذاب بعد ذلك إذ قد تبدل شرها بخيرها وشركها بتوحيدها وكبرها بخضوعها وذلها ) .
وأقول : قال الله تعالى مخبرا عن المشركين واعترافهم المذكور : { وقالوا لو كنا نسمع أو نعقل ما كنا في أصحاب السعير فاعترفوا بذنبهم فسحقا لأصحاب السعير } [ الملك : 10 و11 ] فهذا نص في اعترافهم الاعتراف الحقيقي فإنه لا يطلق تعالى على ما ليس باعتراف أنه اعتراف ثم قال : { فسحقا لأصحاب السعير } أي : بعدا لهم عن الرحمة والإغاثة والغفران فهذا نص في وجه هذا القول الذي قاله تظننا . وقال تعالى لما قالوا وهم في دركات النار : { أخرجنا منها فإن عدنا فإنا ظالمون } [ المؤمنون : 107 ] فاعترفوا بظلمهم وأخبروا عن عزيمتهم أنهم لا يعودون أي إن عدنا إلى ما كنا فيه من الكفر والتكذيب كما يفيده لفظ العود ولم يجب عليهم تعالى إلا بقوله : { اخسئوا فيها ولا تكلمون } [ المؤمنون : 108 ] .
وأخرج الترمذي والبيهقي من حديث أبي الدرداء مرفوعا وفيه : ( أن أهل النار ينادون خزنة جهنم ثم يدعون مالكا ثم يقولون ادعوا ربكم فلا أحد خير من ربكم فيقولون : { ربنا غلبت علينا شقوتنا وكنا قوما ضالين ربنا أخرجنا منها فإن عدنا فإنا ظالمون } [ المؤمنون : 106 و107 ] فيجيب عليهم الرب : { اخسئوا فيها ولا تكلمون } [ المؤمنون : 108 ] . ( فعند ذلك يئسوا من كل خير وعند ذلك أخذوا في الزفير والشهيق والويل ) .
ثم يقال : وقد قال الله تعالى : { إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء } في آيتين من سورة ( النساء ) [ 48 116 ] وهو غير مقيد بزمان ولا حال فيجب الوقوف والتسليم في هذا المقام والاعتراف بالعجز عن إدراك حكمة الحكيم العلام فكيف يقول شيخ الإسلام لم يكن في حكمته أن يستمر بها العذاب ؟ وأين للعقول الاطلاع على أسرار حكمته وكيف لها الوصول إلى معرفة عجائب ملكوته وجبروته  .
ثم أخذ شيخ الإسلام يستدل بأحاديث ( آخر الناس خروجا من النار ) وأحاديث ( أدنى الناس منزلة في الجنة ) وهي أحاديث واضحة في عصاة الموحدين ولا حاجة إلى سردها فهي معروفة في محالها .
ثم قال مستدلا على مدعاه : أنه تعالى يخبر عن العذاب أنه { عذاب يوم عقيم } و{ وعذاب يوم عظيم } و{ عذاب يوم أليم } [ الزخرف : 65 ] ولا يخبر عن النعيم أنه نعيم يوم ولا في موضع واحد .
وأقول : ورد { عذاب يوم عظيم } في قصة صالح في قوله لقومه : { ولا تمسوها بسوء فيأخذكم عذاب يوم عظيم } [ الشعراء : 156 ] والمراد به اليوم الذي أخذهم فيه العذاب بالدنيا وهو العقاب القريب الذي أوعدهم به في قوله : { ولا تمسوها بسوء فيأخذكم عذاب قريب } [ هود : 64 ] قال تعالى : { فلما جاء أمرنا نجينا صالحا } إلى قوله : { ومن خزي يومئذ } [ هود : 66 ] أي : يوم أخذهم العذاب العظيم القريب فهو يوم من أيام الدنيا . وورد { عذاب يوم عظيم } في قصة شعيب : { فكذبوه فأخذهم عذاب يوم الظلة إنه كان عذاب يوم عظيم } [ الشعراء : 189 ] وورد { عذاب يوم عقيم } في قوله تعالى : { ولا يزال الذين كفروا في مرية منه . . . . } الآية إلى قوله : { أو يأتيهم عذاب يوم عقيم } [ الحج : 55 ] وفسر بيوم بدر كما أخرجه ابن مردويه والضياء في ( المختارة ) عن ابن عباس  وأخرجه أيضا ابن مردويه عن أبي بن كعب . وأخرجه عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير وأخرجه ابن أبي حاتم عن عكرمة . فهذه كلها من أيام الدنيا وهب أنه ورد ذلك في صفة عذاب الآخرة فإنه قد ثبت بنص القرآن أنهم لابثون فيها أحقابا والحقب - كما ذكره ابن تيمية في هذه المسألة - خمسون ألف سنة قال : أخرجه الطبراني من حديث أبي أمامة مرفوعا . والأحقاب جمع وأقله ثلاثة يعني مائة ألف سنة وخمسين ألف سنة .
هذا وقد ورد في أهل الجنة { أن أصحاب الجنة اليوم في شغل فاكهين } [ يس : 55 ] وهذا تقييد لنعيمهم وكونهم فاكهين والفاكه المتنعم المتلذذ ومعلوم أنهم في شغل فاكهون أبد الآباد وقال تعالى : { يا عباد لا خوف عليكم اليوم ولا أنتم تحزنون } [ الزخرف : 68 ] فإن قيل أراد به مبدء زوال الخوف والحزن .
قلنا كذلك { عذاب يوم } أريد به مبدأه وحينئذ فلا دليل بالتقييد مطلق الزمان فمن أيام الآخرة ليس لها قيد به من نعيم ولا عذاب . بل أريد به مطلق الزمان فإن أيام الآخرة ليس لها مقدار فمتى [ أطلق اليوم ] أطلقه على مطلق المدة { هذا يوم لا ينطقون } [ المرسلات : 35 ] { هذا يوم الفصل } [ الصافات : 21 ] { هذا يومكم الذي كنتم توعدون } [ الأنبياء : 103 ] { اليوم نختم على أفواههم } [ يس : 65 ] .
{ إني جزيتهم اليوم بما صبروا } [ المؤمنون : 111 ] { وإن يوما عند ربك كألف سنة مما تعدون } [ الحج : 47 ] { في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة } [ المعارج : 4 ] فليس المراد من الجميع اليوم المعروف للمقدار المذكور قطعا ومن إطلاقه على مطلق المدة قوله في قصة عاد : { إني أخاف عليكم عذاب يوم عظيم } [ الشعراء : 135 ] ثم يبينه في ( الحاقة ) بقوله : { وأما عاد فأهلكوا بريح صرصر عاتية } إلى قوله : { ثمانية أيام حسوما } [ 6 و7 ] . فهذا تفسير لليوم العظيم بأيام وليالي . وبهذا يعلم ضرورة أنه إذا أطلق اليوم في تقييد الأمور الأخروية علم يقينا أنه مطلق الزمان ولا تحديد له ولا تعيين ولا نهاية إلا بدليل . وقد كان أعجبني استدلاله بما ذكر من تقييد عذاب الآخرة باليوم في آيات وعدم تقييد نعيم الجنة ولا في آية فلما حققته وجدته لا شيء نفيا وإثباتا .
أما إثباتا فإنه ما ثم دليل على مدعاه وأما نفيا فإنك قد سمعت ما سقناه من تقييد نعيم أهل الجنة فاليوم كما قال الله في الجنة { ادخلوها بسلام ذلك يوم الخلود } [ ق : 34 ] انتهى .
وقد انتهى إلى هنا ما اجلب إليه شيخ الإسلام من خيل الأدلة ورجلها وكثيرها وقلها ودقها وجلها وأجرى فيها قلمه ونشر فيها علمه وأتى بكل ما قدر عليه من قال وقيل واستنفر كل قبيل وجيل وسردها تلميذه ابن قيم الجوزية وقال في آخرها .
هذه نهاية أقدام الفريقين في هذه المسألة ولعلك لا تظفر بها في غير هذا الكتاب ) .

قلت وقد سقنا أدلته النظرية والأثرية ولم نترك منها إلا ما كان مكررا وتكلمنا على تفصيلها وتجميلها بما هدانا الله إليه وله الحمد من غير عصبية مذهبية ولا متابعة أشعرية ولا معتزلية بل [ بما أشهدتنا أنوار الأدلة ] .
واعلم أن هذه المسألة التي أتى بها شيخ الإسلام هي فرع عن مسألة خلق الأشقياء التي حار فيها أرباب النوى وتحير فيها فرسان الأذكياء وترددت حولها أذهان الفطانا وتفرع عنها أقوال اقشعرت منها جلود الأمة الفضلاء .
فطائفة أوهم الجهل بذلك إلى الإقدام على نفي حكمة الله في أقواله وهم غلاة الأشعرية وأخطأوا في ذلك ورد عليهم الأئمة الأعلام من أهل مذهبهم وغيرهم من علماء الأنام وآخر من بين ما في كلامهم من الاختلال وما في نفيهم الحكمة من الداء العضال المحقق العلامة نزيل حرم الله صالح بن مهدي المقبلي في كتابه ( العلم الشامخ ) ولواحقه وفي أبحاثه المسددة ونقلت كلامه ورددت عليه في ( إيقاظ الفكرة ) وطائفة أقدموا على أن الله ليس بقادر على هداية الكافر لأنه خلق على هيئة لا يقبل اللطف معهما وهم غلاة المعتزلة .
وقد رد عليهم الأئمة من أهل التحقيق وأبانوا أنه قول بالقبول غير حقيق وأن فيه من الشناعة والبشاعة ما لا يليق وأما ابن تيمية ومن تابعه فأثبتوا الحكمة وعموم قدرة الله على كل شيء وقال : بما سمعت من فناء النار وأنه تعالى خلق الأشقياء ليتفضل عليهم بعفوه ورحمته ولقد أصاب بإثبات الأمرين الذين نفاهما غيره ولكنه غير وجه الحكم وحكم بفناء النار ولم ينهض له دليل على ذلك كما عرفته .
وقد أشار السيد العلامة الكبير محمد بن إبراهيم الوزير إلى هذه الثلاثة الأقوال وإلى ما تفرع عليها من الدعاوى في إثبات الإجادة في الإرادة حيث قال :
ولما أتى ذكر الخلود بناره على جوده في ذكره والجوازم
تعاظم شأن الخلد في النار كل من تفكر في أسماء رب العوالم
يشير إلى ما قاله ابن تيمية من :
( أن صفاته تعالى من الرضا والرحمة صفتان ذاتيتان ) . فلا منتهى لرضاه وأن سخطه وعذابه ليسا من صفات ذاته التي يستحيل انعكافه عنها كعلمه وحياته والعفو أحب إليه من الانتقام والرحمة أحب إليه من العقوبة والرضى أحب إليه من الغضب والفضل أحب إليه من العدل ثم إن النعيم والثواب من مقتضى رحمته ومغفرته وبره وكرمه ولذلك يضيف ما ذكر إلى نفسه وأما العذاب والعقاب فإنهما من مخلوقاته ولذلك لا يسمى بالمعذب والمعاقب بل يفرق بينهما فيجعل هذا من أوصافه وهذا من مفعولاته من الآية الواحدة كقوله تعالى : { نبئ عبادي أني أنا الغفور الرحيم وأن عذابي هو العذاب الأليم } [ الحجر : 49 و50 ] وقال : { إن ربك لسريع العقاب وإنه لغفور رحيم } [ الأعراف : 167 ] ومثلها في آخر ( الأنعام ) فما كان من مقتضى أسمائه وصفاته فإنه يدوم بدوامها ولا سيما إذا كان محبوبا له في أسمائه وصفاته [ وأما الشر وهو العذاب فلا يدخل في أسمائه وصفاته ] وإن دخل في مفعولاته لحكمة إذا حصلت زال وفني بخلاف الخير فإنه سبحانه دائم المعروف ولا ينقطع معروفه أبدا على الدوام وليس من موجب أسمائه وصفاته أنه لم يزل معاقبا على الدوام غضبان على الدوام فتأمل هذا تأمل فقيه في أسماء الله فإنه يتضح لك باب من أبواب معرفته ومحبته .
ثم أشار السيد محمد إلى ما تفرع من معارضته ما يفيده صفات جوده وفضله وما صرح به من خلود الكفار فأشار إلى الوعيد بقوله :
فمن قائل بالخلد من أجل كثرة ال
وعيد به في المنزلات القواصم
وذلك لأنهم حكموا بعموم الخلود لمن دخل النار من عصاة الموحدين والكفار .
والمسألة مبسوطة في علم الكلام وما لها وعليها مما أثاره المحققون الأعلام . وأشار إلى من قال بالتخصيص لآيات الخلود بقوله :
ومن قائل أن الخصوص مقدم وساعده أسماء أحكم حاكم فإنه أشار إلى من قال : أن الأحاديث الواردة في سعة رحمة الله وصفاته تعالى من أنه أرحم الراحمين وورود آية الاستثناء تخصص آيات الوعيد : وأراد بهذا البيت ما تشتمل عليه مقالة ابن تيمية إذ هي عائدة إلى القول بتخصيص آيات الوعيد بالخلود . ويبعد فناء النار كما دل عليه قوله :
وثالثها المنصور يرجى لمسلم ومن عاند الإسلام ليس بسالم
فإنه أراد أن ثالث الأقوال في المسألة التفصيل وهو أن التخصيص من الوعيد يرجى للمسلم ومن عاند الإسلام وهم الكفار فلا يشمله التخصيص من الوعيد وإن قصرت عبارته عن هذا الحكم لعدم مساعدة النظم فهو مراده فجعل الأقوال ثلاثة بقاء الوعيد على عمومه من غير تخصيص عصاة الموحدين والكفار .
تخصيص الموحدين لا غير . وهذا هو الذي سبق عن ابن عباس في تفسير آية ( هود ) ثم قال مشيرا إلى منشأ مقالة كل من القائلين وأن الحاصل له المحافظة على قاعدة تعود إلى تعظيم الله جل وعلا قوله :
فمن قاصد تعظيمه لو رعى له من الجبروت الحق عز التعاظم
فهذه إشارة إلى الوعيدية وأنهم قصدوا بالقول بالتخليد في النار لكل من دخلها تنزيه الله عن خلف الوعد الذي أفاده قوله : { ما يبدل القول لدي } [ ق : 29 ] ونحوه وأشار إلى منشأ ما ذهب إليه غلاة نفاة الحكمة بقوله :
ومن قاصد تعظيمه لو رعى له محامد ممدوح بأحكم حاكم
انتهى والله سبحانه أعلم
وصلى الله على خير خلقه محمد
وآله وصحبه وسلم
وكان الفراغ من تحقيق هذا الكتاب والتعليق عليه صبيحة يوم الجمعة في 25 ذي القعدة سنة 1401 هجرية وكان ذلك من حكم ابتلاء الله لعباده وهو العزيز الحكيم . وسبحانك اللهم وبحمدك أشهد أن لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك
محمد ناصر الدين الألباني
يقول زهير الشاويش : قدر الله لهذه الرسالة وعدد من الكتب التي عزمنا على طبعها التأخير الطويل لأسباب عديدة :
أحدها ما جرى ويجري في لبنان واضطرار أستاذي الشيخ ناصر الدين لمغادرة مكان إقامته مرات متعددة وما أصابني من ذلك أيضا . أضف إلى ذلك عقبات لا نملك - حتى الآن - القدرة للإفصاح عنها .
وكتب الله العون والأجر لعباده وأننا راضون بقضائه وقدره وما شاء فعل ولا حول ولا قوة إلا بالله .
بيروت غرة رمضان 1404 ه .
avatar
المدير
Admin
Admin

عدد المساهمات : 1934
نقاط : 16508
السٌّمعَة : 6
تاريخ التسجيل : 21/01/2011
العمر : 52

خاص للزوار
تردد1:
 {باقي الكتاب}  من كتاب. رفع الأستار لإبطال أدلة القائلين بفناء النار .محمد بن إسماعيل الأمير الصنعاني .العلامة المحدث محمد ناصر الدين الألباني Left_bar_bleue100/0 {باقي الكتاب}  من كتاب. رفع الأستار لإبطال أدلة القائلين بفناء النار .محمد بن إسماعيل الأمير الصنعاني .العلامة المحدث محمد ناصر الدين الألباني Empty_bar_bleue  (100/0)
أسألة الزوار:
 {باقي الكتاب}  من كتاب. رفع الأستار لإبطال أدلة القائلين بفناء النار .محمد بن إسماعيل الأمير الصنعاني .العلامة المحدث محمد ناصر الدين الألباني Left_bar_bleue75/0 {باقي الكتاب}  من كتاب. رفع الأستار لإبطال أدلة القائلين بفناء النار .محمد بن إسماعيل الأمير الصنعاني .العلامة المحدث محمد ناصر الدين الألباني Empty_bar_bleue  (75/0)
ddddddkkkkkkk:

https://alhorani.ahladalil.com

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

الرجوع الى أعلى الصفحة

- مواضيع مماثلة
» من صفحة 1ألى ص20 من كتاب. رفع الأستار لإبطال أدلة القائلين بفناء النار .محمد بن إسماعيل الأمير الصنعاني .العلامة المحدث محمد ناصر الدين الألباني
» من صفحة 20ألى ص45 من كتاب. رفع الأستار لإبطال أدلة القائلين بفناء النار .محمد بن إسماعيل الأمير الصنعاني .العلامة المحدث محمد ناصر الدين الألباني
» إصلاح المساجد من البدع والعوائد:تأليف علامة الشام محمد جمال الدين القاسمي..خرج أحادثه وعلق عليه محمد ناصر الدين الألباني
» كلمة العلامة المحدث محمد ناصر الدين الألباني - رحمه الله - في مسألة التكفير
» صفة الفتوى والمفتي والمستفتي للإمام أحمد بن حمدان الحراني الحنبلي .تحقيق : محمد ناصر الدين الألباني

 
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى