المواهب الربانية من الآيات القرآنية {من 13 إلى 18 صفحات}
صفحة 1 من اصل 1
المواهب الربانية من الآيات القرآنية {من 13 إلى 18 صفحات}
ذلك ترك ما ينفعه، وهو القيام بالدعوة على وجه الكمال، ولا يضق صدره بذلك؛ فتضعف نفسه، وتحضره الحسرات، بل يقوم بجدٍ واجتهاد، ولو حصل ما حصل من معارضة العباد.
وهذا المعنى تضمنّه إرشادُ الله بقوله تعالى: ﴿فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَضَائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ أَنْ يَقُولُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ جَاءَ مَعَهُ مَلَكٌ إِنَّمَا أَنْتَ نَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ﴾[هود: 12] فأمره بالقيام به بجدٍ واجتهاد، مكملاً لذلك غير تارك لشيء منه، ولا حرج صدره لأذيتهم، وهذه وظيفته التي يُطالَب بها؛ فعليه أن يقوم بها، وأما هداية العباد ومجازاتهم فذلك إلى الله الذي هو على كل شيء وكيل.
قوله تعالى: ﴿وَإِذَا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ دَعَوْا رَبَّهُمْ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا أَذَاقَهُمْ مِنْهُ رَحْمَةً إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ﴾[الروم: 33] ونحوها من الآيات التي فيها هذا المعنى؛ فإذا كان هذا ثابتاً في أصل الدين، أن الناس أكثرهم إذا مسهم الضر أنابوا إلى الله؛ لعلمهم أنه كاشف الكربات وحده لا شريك له، وللضرورة التي تضطرهم إليه، ثم إذا زالت الضرورة عادوا إلى شركهم؛ فكذلك الأمر ثابت في فروع الدين، وفي سائر الأمور تجِدِ الناسَ مستجيبين لداعي الغفلة، مقيمين على ما يكرهه الله، غافلين عن ذكر ربهم ودعائهم، فإذا مستهم نائبةٌ من نوائب المحن أقبلوا إلى ربهم متضرعين، ولكشف ما بهم داعين، فأقبلوا وأنابوا، ثم إذا أزال الله شدتهم، وكشف كربتهم؛ عادوا إلى غفلتهم وغيهم يعمهون، ونسوا ما كانوا يدعونه إليه من قبل، كأنه ما كان.
وهذه الحال من أعظم الانحرافات، وأشد البليات التي يبتلى بها العبد، لا يعرف ربه إلا في الضرورة، وهذه شعبة من شعب الشرك، ومن كان فيه هذا الأمر ففيه شَبَه ظاهر مِن حال المشركين.
وإنما المؤمن الكامل الذي يعرف ربَّه في السراء والضراء، والعسر واليسر، فهذا هو العبد على الحقيقة، وهذا الذي له العاقبة الحسنة والسعادة الدائمة، وهذا الذي يحصل له النجاة من الكروب إذا وقع فيها، قال تعالى بعدما ذكر عن ذي النون أنه بسبب عبادته في الرخاء عَرفَه اللهُ في الشدة: ﴿فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ * لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ﴾[الصافات: 143، 144]، وقال: ﴿وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ﴾[الأنبياء: 88]، وقال النبي r: «تعرف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة»([وحدهم المشرفون لديهم صلاحيات معاينة هذا الرابط])، وقريب من هذا المعنى ما ذكر اللهُ من حال المترفين الرادين لدعوة المرسلين، حيث قال: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ﴾[سبإ: 34] فأخبر أن السبب في ردهم لدعوتهم كونهم مترفين، فدل على أن الترف هو الانغماس في نعيم الدنيا ولذاتها، والانكباب عليها، والتنوُّق([وحدهم المشرفون لديهم صلاحيات معاينة هذا الرابط]) في مآكلها ومشاربها ومراكبها، والإسراف في ذلك يحدث في الإنسان خُلقاً خبيثاً يمنعه من سرعة الانقياد لأمر الله، والاستجابة لداعي الله، وكما أنه ثابت واقع في أصل الدين فإنه واقع أيضاً في شرائعه وفروعه؛ فكم منع الترفُ من عبادات! وكم فوّت مِن قربات، وكم كان سبباً للوقوع في المحرمات؛ فإن الترف وكثرة الإرفاه([وحدهم المشرفون لديهم صلاحيات معاينة هذا الرابط]) تُصيّر الإنسان شبيهاً بالأنعام التي ليس لها همٌّ إلا التمتع في الأكل والشرب! وكذلك يُرَهِّل([وحدهم المشرفون لديهم صلاحيات معاينة هذا الرابط]) البدنَ ويُكسِله ويُثقِله عن الطاعات، ويُشغل القلبَ في مرادات النفس، ومراداتُها كم حملت صاحبها على جمع الأموال من غير حلها! وحملت النفس على الأشر والبطر، والرياء، والفخر والخيلاء، والاستكثار من قرناء السوء!
وفي الجملة: في الترف والسرف مِن المضار أضعافَ أضعافَ ما ذكرنا، فعلى العبد أن يكون مقتصداً في مأكله ومشربه، وملبسه ومسكنه، وغير ذلك من حوائجه التي لا بد منها، فلا يعلق قلبه إلا بما يحتاجه منها، ولا يستعمل زيادة عن حاجته، ويُعوّد نفسه على ذلك؛ لتتمرن النفسُ على الأخلاق الجميلة ويسلم مِن كثير مِن الآفات والشرور المترتبة على الترف؛ ولهذا لما فُتحت الدنيا على المسلمين أيام عمر رضي الله عنه، وكثرت الأموال كان - رضي الله عنه - ينهى المسلمين أشد النهي عن الترف، ويأمرهم بالخشونة والاقتصاد الذي به صلاح المعاش والمعاد، وبالله التوفيق.
قوله تعالى: ﴿فَانْظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمَتِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ ذَلِكَ لَمُحْيِ الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾[الروم: 50] فإذا كانت الأرض الخاشعة الخالية من كل نبت، إذا أنزل الله عليها المطر اهتزت وربت وأنبتت من كل زوج بهيج، واختلط نبتها، وكثرت أصنافه ومنافعه؛ جعله الله تعالى من أعظم الأدلة الدالة على سعة رحمته وكمال قدرته، وأنه سيحيي الموتى للجزاء، فالدليل في القلب الخلي من العلم والخير حين ينزل الله عليه غيث الوحي فيهتز بالنبات، وينبت من كل زوج بهيج من العلوم المختلفة النافعة، والمعارف الواسعة، والخير الكثير، والبر الواسع، والإحسان الغزير، والمحبة لله ورسوله، وإخلاص الأعمال الظاهرة والباطنة لله وحده لا شريك له، والخوف والرجاء، والتضرع والخشوع لله، وأنواع العبادات وأصناف التقربات، والنصح لله ولرسوله ولكتابه ولأئمة المسلمين وعامتهم، وغير ذلك من العلوم والأعمال الظاهرة والباطنة، والفتوحات الربانية، مما لا عينٌ رأت ولا أذنٌ سمعت، ولا خطر على قلب بشر: أعظم مِن الأرض بكثير، على سعة رحمة الله وواسع جوده، وتنوع هباته وكمال اقتداره وعزته، وأنه يحيي الموتى للجزاء، وأن عنده في الدار الأخرى من الخيرات والفضل ما لا يعلمه أحد غيره، وقد نبّه الله على أن حياة القلوب بالوحي بمنزلة حياة الأرض بالغيث، وأن القلوب الخالية من الخير بمنزلة الأرض الخبيثة، فقال تعالى: ﴿وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لَا يَخْرُجُ إِلَّا نَكِدًا كَذَلِكَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ﴾[الأعراف: 58].
نية العبد تقوم مقام عمله: وإذا أحسن العبد في عبادة ربه، ووطن نفسه على الأعمال الفاضلة الشاقة؛ سهل الله له الأمور، وهوّن عليه صعابها، وربما انقلبت المخاوف أمناً، وتبدلت المحنة منحة، وربما حصل من آثار ذلك خيرُ الدنيا والآخرة؛ ويدل على ذلك قوله تعالى: ﴿الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ﴾ - إلى قوله - ﴿فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ﴾[آل عمران: 172 - 174] فلا يُستنكر هذا الخير على ذي الفضل العظيم، وفي هذه الآية دليل أيضاً على أن الله يُحدث لعبده أسباب المخاوف والشدائد ليُحدث العبدُ التوكلَ على ربه، والإخلاص والتضرع؛ فيزداد إيمانُه، وينمو يقينُه، كما قال تعالى: ﴿الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ﴾[آل عمران: 173].
قوله تعالى: ﴿وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ﴾[الأنعام: 51] ليس فيه نقص كما توهمه بعضهم! وجعل الخوف بمعنى العلم! وإنما فيه زيادة معنىً نفيس، وهو أنه: كما كان العلم نوعين، علمٌ لا يثمر العملَ بمقتضاه، وإنما هو حجة على صاحبه، وهو غير نافع، وعلم يثمر العمل؛ وهو علم المؤمنين بأن الله سيبعثهم ويجازيهم بأعمالهم؛ فأحدث لهم هذا العلمُ الخوفَ فخافوا مقام ربهم، وانتفعوا بنذارة الرسل، وعلموا أنه ليس لهم من دون الله وليٌ ولا شفيع، فهؤلاء الذين أمر الله رسولَه بنذارتهم لأنهم يعرفون قدرها، ويقومون بحقها، وأما حالة المعرضين الغافلين، والمعرضين المعاندين؛ فهؤلاء لا ينفع فيهم وعظٌ ولا تذكيرٌ؛ لعدم المقتضى والسبب الموجب، وهذا المعنى يأتي بما أشبه هذا الموضع من القرآن، والله ولي الإحسان.
قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ وَإِذَا قِيلَ انْشُزُوا فَانْشُزُوا يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ
[وحدهم المشرفون لديهم صلاحيات معاينة هذا الرابط]([1]) الترمذي ح (2516)، أحمد ح(2803)، وقال الترمذي: حديث صحيح.
[وحدهم المشرفون لديهم صلاحيات معاينة هذا الرابط]([2]) "تنَوَّقَ في أموره: تجود وبالغ"، ينظر: المحكم والمحيط الأعظم: (6/ 571).
[وحدهم المشرفون لديهم صلاحيات معاينة هذا الرابط]([3]) "الإرْفَاه: التنعُّم والدَّعَة ومُظاهرَةُ الطَّعام على الطَّعام، واللباس على اللِّباس" ، ينظر: تهذيب اللغة: (6/ 150).
[وحدهم المشرفون لديهم صلاحيات معاينة هذا الرابط]([4]) رَهِلَ لَحْمُهُ بالكسر: اضْطَرَبَ واسْتَرْخَى وانْتَفَخَ أو وَرِمَ من غيرِ داءٍ. ينظر: القاموس المحيط، ص (1303).
[وحدهم المشرفون لديهم صلاحيات معاينة هذا الرابط]([5]) الترمذي ح(3407) واستغربه، النسائي ح(1304)، وأحمد ح(17114) ، وصححه ابن حبان ح(935)، وقد أفرده ابن رجب ـ رحمه الله ـ بشرح في رسالة مستقلة ، حققها الأخ الشيخ سامي جاد الله.
[وحدهم المشرفون لديهم صلاحيات معاينة هذا الرابط]([6]) "الآخِيَّةُ: عُود يُعرَّض في الحائط تُشد إليه الدابة، وقيل: هو حَبل يُدفن في الأرض ويبرز طَرفُه فيُشدّ به، وفي الحديث: مَثل المؤمن والإيمان كمثل الفرس في آخيته، يَجُول ثم يَرجع إلى آخِيَّته" ينظر: المحكم لابن سيده : (5/311).
([1]) الترمذي ح(3407) واستغربه، النسائي ح(1304)، وأحمد ح(17114) ، وصححه ابن حبان ح(935)، وقد أفرده ابن رجب ـ رحمه الله ـ بشرح في رسالة مستقلة ، حققها الأخ الشيخ سامي جاد الله.
([1]) "الآخِيَّةُ: عُود يُعرَّض في الحائط تُشد إليه الدابة، وقيل: هو حَبل يُدفن في الأرض ويبرز طَرفُه فيُشدّ به، وفي الحديث: مَثل المؤمن والإيمان كمثل الفرس في آخيته، يَجُول ثم يَرجع إلى آخِيَّته" ينظر: المحكم لابن سيده : (5/311).
[/b]
وهذا المعنى تضمنّه إرشادُ الله بقوله تعالى: ﴿فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَضَائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ أَنْ يَقُولُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ جَاءَ مَعَهُ مَلَكٌ إِنَّمَا أَنْتَ نَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ﴾[هود: 12] فأمره بالقيام به بجدٍ واجتهاد، مكملاً لذلك غير تارك لشيء منه، ولا حرج صدره لأذيتهم، وهذه وظيفته التي يُطالَب بها؛ فعليه أن يقوم بها، وأما هداية العباد ومجازاتهم فذلك إلى الله الذي هو على كل شيء وكيل.
قوله تعالى: ﴿وَإِذَا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ دَعَوْا رَبَّهُمْ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا أَذَاقَهُمْ مِنْهُ رَحْمَةً إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ﴾[الروم: 33] ونحوها من الآيات التي فيها هذا المعنى؛ فإذا كان هذا ثابتاً في أصل الدين، أن الناس أكثرهم إذا مسهم الضر أنابوا إلى الله؛ لعلمهم أنه كاشف الكربات وحده لا شريك له، وللضرورة التي تضطرهم إليه، ثم إذا زالت الضرورة عادوا إلى شركهم؛ فكذلك الأمر ثابت في فروع الدين، وفي سائر الأمور تجِدِ الناسَ مستجيبين لداعي الغفلة، مقيمين على ما يكرهه الله، غافلين عن ذكر ربهم ودعائهم، فإذا مستهم نائبةٌ من نوائب المحن أقبلوا إلى ربهم متضرعين، ولكشف ما بهم داعين، فأقبلوا وأنابوا، ثم إذا أزال الله شدتهم، وكشف كربتهم؛ عادوا إلى غفلتهم وغيهم يعمهون، ونسوا ما كانوا يدعونه إليه من قبل، كأنه ما كان.
وهذه الحال من أعظم الانحرافات، وأشد البليات التي يبتلى بها العبد، لا يعرف ربه إلا في الضرورة، وهذه شعبة من شعب الشرك، ومن كان فيه هذا الأمر ففيه شَبَه ظاهر مِن حال المشركين.
وإنما المؤمن الكامل الذي يعرف ربَّه في السراء والضراء، والعسر واليسر، فهذا هو العبد على الحقيقة، وهذا الذي له العاقبة الحسنة والسعادة الدائمة، وهذا الذي يحصل له النجاة من الكروب إذا وقع فيها، قال تعالى بعدما ذكر عن ذي النون أنه بسبب عبادته في الرخاء عَرفَه اللهُ في الشدة: ﴿فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ * لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ﴾[الصافات: 143، 144]، وقال: ﴿وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ﴾[الأنبياء: 88]، وقال النبي r: «تعرف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة»([وحدهم المشرفون لديهم صلاحيات معاينة هذا الرابط])، وقريب من هذا المعنى ما ذكر اللهُ من حال المترفين الرادين لدعوة المرسلين، حيث قال: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ﴾[سبإ: 34] فأخبر أن السبب في ردهم لدعوتهم كونهم مترفين، فدل على أن الترف هو الانغماس في نعيم الدنيا ولذاتها، والانكباب عليها، والتنوُّق([وحدهم المشرفون لديهم صلاحيات معاينة هذا الرابط]) في مآكلها ومشاربها ومراكبها، والإسراف في ذلك يحدث في الإنسان خُلقاً خبيثاً يمنعه من سرعة الانقياد لأمر الله، والاستجابة لداعي الله، وكما أنه ثابت واقع في أصل الدين فإنه واقع أيضاً في شرائعه وفروعه؛ فكم منع الترفُ من عبادات! وكم فوّت مِن قربات، وكم كان سبباً للوقوع في المحرمات؛ فإن الترف وكثرة الإرفاه([وحدهم المشرفون لديهم صلاحيات معاينة هذا الرابط]) تُصيّر الإنسان شبيهاً بالأنعام التي ليس لها همٌّ إلا التمتع في الأكل والشرب! وكذلك يُرَهِّل([وحدهم المشرفون لديهم صلاحيات معاينة هذا الرابط]) البدنَ ويُكسِله ويُثقِله عن الطاعات، ويُشغل القلبَ في مرادات النفس، ومراداتُها كم حملت صاحبها على جمع الأموال من غير حلها! وحملت النفس على الأشر والبطر، والرياء، والفخر والخيلاء، والاستكثار من قرناء السوء!
وفي الجملة: في الترف والسرف مِن المضار أضعافَ أضعافَ ما ذكرنا، فعلى العبد أن يكون مقتصداً في مأكله ومشربه، وملبسه ومسكنه، وغير ذلك من حوائجه التي لا بد منها، فلا يعلق قلبه إلا بما يحتاجه منها، ولا يستعمل زيادة عن حاجته، ويُعوّد نفسه على ذلك؛ لتتمرن النفسُ على الأخلاق الجميلة ويسلم مِن كثير مِن الآفات والشرور المترتبة على الترف؛ ولهذا لما فُتحت الدنيا على المسلمين أيام عمر رضي الله عنه، وكثرت الأموال كان - رضي الله عنه - ينهى المسلمين أشد النهي عن الترف، ويأمرهم بالخشونة والاقتصاد الذي به صلاح المعاش والمعاد، وبالله التوفيق.
قوله تعالى: ﴿فَانْظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمَتِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ ذَلِكَ لَمُحْيِ الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾[الروم: 50] فإذا كانت الأرض الخاشعة الخالية من كل نبت، إذا أنزل الله عليها المطر اهتزت وربت وأنبتت من كل زوج بهيج، واختلط نبتها، وكثرت أصنافه ومنافعه؛ جعله الله تعالى من أعظم الأدلة الدالة على سعة رحمته وكمال قدرته، وأنه سيحيي الموتى للجزاء، فالدليل في القلب الخلي من العلم والخير حين ينزل الله عليه غيث الوحي فيهتز بالنبات، وينبت من كل زوج بهيج من العلوم المختلفة النافعة، والمعارف الواسعة، والخير الكثير، والبر الواسع، والإحسان الغزير، والمحبة لله ورسوله، وإخلاص الأعمال الظاهرة والباطنة لله وحده لا شريك له، والخوف والرجاء، والتضرع والخشوع لله، وأنواع العبادات وأصناف التقربات، والنصح لله ولرسوله ولكتابه ولأئمة المسلمين وعامتهم، وغير ذلك من العلوم والأعمال الظاهرة والباطنة، والفتوحات الربانية، مما لا عينٌ رأت ولا أذنٌ سمعت، ولا خطر على قلب بشر: أعظم مِن الأرض بكثير، على سعة رحمة الله وواسع جوده، وتنوع هباته وكمال اقتداره وعزته، وأنه يحيي الموتى للجزاء، وأن عنده في الدار الأخرى من الخيرات والفضل ما لا يعلمه أحد غيره، وقد نبّه الله على أن حياة القلوب بالوحي بمنزلة حياة الأرض بالغيث، وأن القلوب الخالية من الخير بمنزلة الأرض الخبيثة، فقال تعالى: ﴿وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لَا يَخْرُجُ إِلَّا نَكِدًا كَذَلِكَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ﴾[الأعراف: 58].
نية العبد تقوم مقام عمله: وإذا أحسن العبد في عبادة ربه، ووطن نفسه على الأعمال الفاضلة الشاقة؛ سهل الله له الأمور، وهوّن عليه صعابها، وربما انقلبت المخاوف أمناً، وتبدلت المحنة منحة، وربما حصل من آثار ذلك خيرُ الدنيا والآخرة؛ ويدل على ذلك قوله تعالى: ﴿الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ﴾ - إلى قوله - ﴿فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ﴾[آل عمران: 172 - 174] فلا يُستنكر هذا الخير على ذي الفضل العظيم، وفي هذه الآية دليل أيضاً على أن الله يُحدث لعبده أسباب المخاوف والشدائد ليُحدث العبدُ التوكلَ على ربه، والإخلاص والتضرع؛ فيزداد إيمانُه، وينمو يقينُه، كما قال تعالى: ﴿الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ﴾[آل عمران: 173].
قوله تعالى: ﴿وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ﴾[الأنعام: 51] ليس فيه نقص كما توهمه بعضهم! وجعل الخوف بمعنى العلم! وإنما فيه زيادة معنىً نفيس، وهو أنه: كما كان العلم نوعين، علمٌ لا يثمر العملَ بمقتضاه، وإنما هو حجة على صاحبه، وهو غير نافع، وعلم يثمر العمل؛ وهو علم المؤمنين بأن الله سيبعثهم ويجازيهم بأعمالهم؛ فأحدث لهم هذا العلمُ الخوفَ فخافوا مقام ربهم، وانتفعوا بنذارة الرسل، وعلموا أنه ليس لهم من دون الله وليٌ ولا شفيع، فهؤلاء الذين أمر الله رسولَه بنذارتهم لأنهم يعرفون قدرها، ويقومون بحقها، وأما حالة المعرضين الغافلين، والمعرضين المعاندين؛ فهؤلاء لا ينفع فيهم وعظٌ ولا تذكيرٌ؛ لعدم المقتضى والسبب الموجب، وهذا المعنى يأتي بما أشبه هذا الموضع من القرآن، والله ولي الإحسان.
ـ فصل ـ
العزم الذي مدح الله به خيار خلقه، كقوله: ﴿فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ﴾[الأحقاف: 35] هو: قوة الإرادة وحزمها على الاستمرار على أمر الله، والهمة التي لا تَني ولا تفتر في طلب رضوان الله وحسنِ معاملته، وتوطين النفس على عدم التقصير في شيء من حقوق الله، ولذلك لام الله آدم عليه السلام بعدم استمراره على الأمر، وحصول الاغترار منه لعدوه بأكل الشجرة التي عهد الله له بالامتناع من أكلها، فقال تعالى: ﴿وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا﴾[طه: 115] فحصول الفتور وفلتات التقصير منافٍ لكمال العزم، ولهذا لم يكن كمال هذا الوصف إلا لمن بلغوا الدرجة العالية في الفضائل، والنقص إنما يصيب العبد من أحد أمرين: إما من عدم عزمه على الرشد، الذي هو الخير، وإما من عدم ثباته واستمراره على عزمه؛ ولهذا كان دعاء النبي r: «اللهم إني أسألك الثبات في الأمر، والعزيمة على الرشد»([وحدهم المشرفون لديهم صلاحيات معاينة هذا الرابط]) من أنفع الأدعية وأجمعها للخيرات، فمن أعانه الله على نية الرشد والعزيمة عليها والثبات والاستمرار؛ فقد حصل له أكبر أسباب السعادة، والناس في هذا المقام درجات بحسب قيامهم بهذين الأمرين، وحسْب ذي الفضل فضلاً أن تكون العزيمة على الرشد وصفه، وآثارها من العلم والعمل نعته، وإذا حصل له نوع فتور وخلل في هذا المأمور رجع إلى أصله وآخِيَّتِه([وحدهم المشرفون لديهم صلاحيات معاينة هذا الرابط])، وداوى هذا الداء بالتذكر والاستغفار، قال تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ﴾[الأعراف: 201] أي تذكروا الخلل الذي دخل عليهم من الشيطان والنقص الذي حصل لهم به الخسران فأبصروا ذلك فبادروا إلى سده والعود إلى ما عودهم وليهم من لزوم الصراط المستقيم، نسأل الله تعالى أن يجعلنا منهم بمنه وكرمه، آمين.قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ وَإِذَا قِيلَ انْشُزُوا فَانْشُزُوا يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ
[وحدهم المشرفون لديهم صلاحيات معاينة هذا الرابط]([1]) الترمذي ح (2516)، أحمد ح(2803)، وقال الترمذي: حديث صحيح.
[وحدهم المشرفون لديهم صلاحيات معاينة هذا الرابط]([2]) "تنَوَّقَ في أموره: تجود وبالغ"، ينظر: المحكم والمحيط الأعظم: (6/ 571).
[وحدهم المشرفون لديهم صلاحيات معاينة هذا الرابط]([3]) "الإرْفَاه: التنعُّم والدَّعَة ومُظاهرَةُ الطَّعام على الطَّعام، واللباس على اللِّباس" ، ينظر: تهذيب اللغة: (6/ 150).
[وحدهم المشرفون لديهم صلاحيات معاينة هذا الرابط]([4]) رَهِلَ لَحْمُهُ بالكسر: اضْطَرَبَ واسْتَرْخَى وانْتَفَخَ أو وَرِمَ من غيرِ داءٍ. ينظر: القاموس المحيط، ص (1303).
[وحدهم المشرفون لديهم صلاحيات معاينة هذا الرابط]([5]) الترمذي ح(3407) واستغربه، النسائي ح(1304)، وأحمد ح(17114) ، وصححه ابن حبان ح(935)، وقد أفرده ابن رجب ـ رحمه الله ـ بشرح في رسالة مستقلة ، حققها الأخ الشيخ سامي جاد الله.
[وحدهم المشرفون لديهم صلاحيات معاينة هذا الرابط]([6]) "الآخِيَّةُ: عُود يُعرَّض في الحائط تُشد إليه الدابة، وقيل: هو حَبل يُدفن في الأرض ويبرز طَرفُه فيُشدّ به، وفي الحديث: مَثل المؤمن والإيمان كمثل الفرس في آخيته، يَجُول ثم يَرجع إلى آخِيَّته" ينظر: المحكم لابن سيده : (5/311).
([1]) الترمذي ح(3407) واستغربه، النسائي ح(1304)، وأحمد ح(17114) ، وصححه ابن حبان ح(935)، وقد أفرده ابن رجب ـ رحمه الله ـ بشرح في رسالة مستقلة ، حققها الأخ الشيخ سامي جاد الله.
([1]) "الآخِيَّةُ: عُود يُعرَّض في الحائط تُشد إليه الدابة، وقيل: هو حَبل يُدفن في الأرض ويبرز طَرفُه فيُشدّ به، وفي الحديث: مَثل المؤمن والإيمان كمثل الفرس في آخيته، يَجُول ثم يَرجع إلى آخِيَّته" ينظر: المحكم لابن سيده : (5/311).
[/b]
مواضيع مماثلة
» المواهب الربانية من الآيات القرآنية {من 8 إلى 13 صفحات}
» المواهب الربانية من الآيات القرآنية {من 18 إلى 25 صفحات}
» المواهب الربانية من الآيات القرآنية {من 25 إلى 31 صفحات}
» المواهب الربانية من الآيات القرآنية {من 31 إلى 38 صفحات}
» المواهب الربانية من الآيات القرآنية {من 38 إلى 44 صفحات}
» المواهب الربانية من الآيات القرآنية {من 18 إلى 25 صفحات}
» المواهب الربانية من الآيات القرآنية {من 25 إلى 31 صفحات}
» المواهب الربانية من الآيات القرآنية {من 31 إلى 38 صفحات}
» المواهب الربانية من الآيات القرآنية {من 38 إلى 44 صفحات}
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى