هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.

المواهب الربانية من الآيات القرآنية {من 38 إلى 44 صفحات}

اذهب الى الأسفل

المواهب الربانية من الآيات القرآنية {من 38 إلى 44 صفحات} Empty المواهب الربانية من الآيات القرآنية {من 38 إلى 44 صفحات}

مُساهمة من طرف المدير الثلاثاء مارس 20, 2012 7:07 pm

لولا فضلُ الله ورحمتُه لما شرع لعباده الأحكام، ولولا فضلُه ورحمتُه لما فصّلها وبيّنها، ولولا فضلُه ورحمتُه وأن الله توابٌ حكيم لما وضح ما يحتاج إليه العبادُ ويسّره غاية التيسير، ولولا فضلُه ورحمتُه لما شرع أسباب التوبة والمغفرة، ولما تاب على التائبين، ولولا فضلُه ورحمتُه لما زكى منهم من أحد أبداً، ولكن الله يزكي من يشاء، والله سميع عليم، كما فصّل ذلك في صدر سورة النور.

قوله تعالى: ﴿وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ * وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ نِكَاحًا حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ﴾ - إلى قوله - ﴿وَلَا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا﴾[النور: 32، 33] اشتملت هذه الآيات على الأمر بالسعي بالأسباب المباحة التي يُنال بها الرزق كالنكاح ونحوه، وعلى أن من لم يحصل له سَعة فليلزم تقوى الله تعالى والكفَّ عن محارمه، وينتظر فضلَ الله ورزقَه وغناه، وعلى تحريم السعي بالأسباب المحرمة في قوله: ﴿وَلَا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ﴾ والله أعلم.

"الأعرافُ": موضعٌ بين الجنة والنار، يُشرف على كلٍ منهما، وليس هو موضع استقرار، إنما هو موضع أناسٍ تساوت حسناتُهم وسيئاتُهم، يمكثون فيه مدةً كما يشاء الله ثم يدخلون الجنة، وفي ذلك حِكَمٌ نبَّه اللهُ تعالى عليها:

منها: أن هذا منزلٌ به يُستدل على كمالِ عدلِ اللهِ وحكمتِه وحمْدِه؛ حيث جعل اللهُ تعالى أسبابَ الثواب والعقاب تتجاذَب وتتعارَض، ويقاوِم بعضُها بعضاً؛ فحسناتهم منعتهم من النار، وسيئاتهم منعتهم الجنة في ذلك الوقت فصاروا وسطاً بين الدارين، وفي برزخٍ بين المحلين، لتظهر الحكمة أولاً ثم يأتيها الفضلُ من ذي الفضل العظيم، الذي أحاط بالخلق من جميع الوجوه فيغمرها، ويكون الحكم له، ففي هذا من تنويع حمده، وتصريفه لعباده؛ ما به يعرف العبادُ كمالَه وكمالَ أسمائِه وصفاتِه، وحكمتَه وعدلَه وفضلَه.

ومنها: أن حالهم من جملة الأدلة على سعة رحمة الله، وأن رحمتَه سبقت غضبَه وغلبَتْه؛ بحيث إذا تعارض موجبُ هذا وموجبُ هذا صار الحكم قطعاً لموجبِ الرحمة على موجبِ الغضب.

ومما يدل على هذا: أنه إذا كان في العبد من موجبِ الرحمة مثقالُ ذرةٍ من إيمان فإنه لا بد أن يصير الحكمُ له، ولو عمل موجبُ الغضب عملَه فالعاقبةُ لموجِبِ الرحمة.

ومنها: أن الله إذا أراد أمراً هيّأ أسبابَه، فلما قضى تعالى أنهم سيدخلون الجنة؛ جعل الطمع والرجاء في قلوبهم، والدعاء أن يجيرهم من النار - ولا يجعلهم مع القوم الظالمين - على ألسنتهم، والدعاءُ مع الرجاءِ والطمعِ لا تتخلف عنه الإجابة.

ومنها: أن "أهل الأعراف" جعلهم الله سبباً يُعرف به ما يصير إليه أهلُ الدارين، وما كان عليه أهلُ الشقاء مِن النكالِ والوبال، وما عليه أهل الجنة من السرور والغبطة، ولهذا ذكر الله توبيخهم لرجالٍ يعرفونهم بسيماهم من أهل النار، إلى غير ذلك من الحِكَم الإلهية فيما يُجريه من الأحكام على البرِيّة.

قول شعيب عليه السلام: ﴿وَمَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَعُودَ فِيهَا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّنَا وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا﴾[الأعراف: 89] بعد قوله: ﴿قَدِ افْتَرَيْنَا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا إِنْ عُدْنَا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللَّهُ مِنْهَا﴾[الأعراف: 89] مِن أعظم الأدلة على كمال معرفتِه بربه، فإنه أولاً: لما بيّن امتناع عودهم في ملة الكفار - بحسب ما كان عليه من مِنّة الله عليه بكراهته الشديدة لملّتهم، واغتباطه بإنجاء الله له منها، وأنهم لو عادوا في ملتهم بعد هذا كان من أعظم الافتراء على الله، الذي يمتنع غاية الامتناع ممن هذا وصفه، وكان هذا الامتناع أثراً عمّا يسّر الله له من الأسباب - استدرك الأمرَ بعد ذلك، وعلم أن هذا الامتناع بحسب ما وصلت إليه علوم البشر، وأن عِلم الله تعالى محيط بعلومهم، فقد يعلمون شيئاً ويخبرون ما يترتب على علمهم مما يكون بحسب حكمة الله تعالى، ومع ذلك فالله غالب على أمره، وقد يتخلف العلمُ الذي علموه، وأثرُه الذي حكموا به؛ فقال: ﴿إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّنَا﴾ ثم قرر ذلك بقوله: ﴿وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا﴾ ثم لجأ إلى أعظم الأسباب الصادرة مِن العبد، التي بها ينال ما عند الله من خير الدنيا والآخرة ودفع شرورهما، وهو: التوكل على ربه، فقال: ﴿عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا﴾ ثم بين ثقته التامة بوعد الله له بالنجاة، هو ومن تبعه، وهلاك من خالفه فقال: ﴿رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ﴾[الأعراف: 89].

قوله تعالى: ﴿أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ بَلْ جَاءَهُمْ بِالْحَقِّ وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ * وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَنْ ذِكْرِهِمْ مُعْرِضُونَ﴾[المؤمنون:70،71] دلت على أن مخالفتهم للرسول لأجل ما جاء به من الحق، وأن عداوتهم الحقيقية للحق لذاته، وأنه السبب في ذلك؛ لأن الحق خالفَ أهواءَهم، وأن أهواءهم فاسدة يمتنع أن يَرِد الحقُّ بما يوافقها؛ لأن الحق هو صلاح السماوات والأرض ومن فيهن، ولو وافق الحقُّ أهواءهم لفسدت السماوات والأرض ومن فيهن، فدل هذا على أن الحق جاء بما تشهد العقولُ الصحيحة، والفِطرُ المستقيمة بصحته واستقامته، واعتداله وكماله, وأن مَن خالف الحقَّ فلِفسادٍ في عقله، وانحرافٍ في فطرته، وأنه اختار الضار على النافع؛ فلهذا قال: ﴿بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَنْ ذِكْرِهِمْ مُعْرِضُونَ﴾.

قوله تعالى: ﴿يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ﴾[مريم: 12] ذكر كثيرٌ من المفسرين أن تقديره: "فوهبنا له يحيى، وقلنا يا يحيى إلخ" ولا يُحتاج إلى هذا! فإنه صرّح أولاً بهِبَته يحيى في قوله: ﴿يَا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ اسْمُهُ يَحْيَى﴾[مريم: 7] فلو ذُكر بعد ذلك لكان تكريراً لا يُحتاج إليه.

قوله تعالى: ﴿فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا﴾[مريم: 59] عذاباً مضاعفاً شديداً - اتبعوا الشهوات بمعنى: أرادوها وصارت هي همهم، وانقادوا لها، وصاروا مطيعين لها؛ فلذلك قال: ﴿اتَّبَعُوا﴾ ولم يقل: "تناولوا, وأكلوا" ونحوه لهذا المعنى؛ لأن هذا الذم إنما يتناول متبعي الشهوات, فمهما اشتهت نفوسُهم فعلوه على أنه المقصود المتبوع! ومن المعلوم أن النفس من طبعها أنها أمارة بالسوء, فإذا كان هذا طبعُها عُلم أن ذمهم على اتباع الشهوات يدخل فيه المعاصي كلُّها, فلذلك رتب على هذا العقابَ البليغَ في قوله: ﴿فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا﴾ وهذا بخلاف المؤمن المطيع لله؛ فإنه - وإن تناول الشهوات - فإنه لا يتبعها ولا تصير أكبرَ همه، ولا مبلغ علمه، بل يتناولها على وجه تكون هي تابعة لغيرها لا متبوعة، وخواص المؤمنين يتناولون الشهوات بقصد التوسل بها إلى القربات فتنقلب طاعات! ونظير هذا: أن الذي تناوله الذمُّ هو اتباعُ الهوى، وهو كونه متبوعاً بأن يتخذ العبدُ إلهه هواه، لا مجرد أن يكون للعبد هوى، فكلُّ أَحدٍ له هوى، ولكن المؤمن كما قال تعالى: ﴿وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى﴾[النازعات:40، 41].

قوله تعالى: ﴿رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا﴾[مريم: 65] اشتملت على أصول عظيمة: على توحيد الربوبية، وأنه تعالى رب كل شيء وخالقه ورازقه ومدبره، وعلى توحيد الإلهية والعبادة، وأنه تعالى الإله المعبود، وعلى أن ربوبيته موجبة لعبادته وتوحيده، ولهذا أتى فيه بالفاء الدالة على السبب فقال: ﴿فَاعْبُدْهُ﴾ أي: فكما أنه ربُّ كل شيء؛ فليكن هو المعبود حقاً فاعبده، ومنه الاصطبار لعبادته تعالى، وهو: جهاد النفس وتمرينها، وحملها على عبادة الله تعالى، فيدخل في هذا أعلى أنواع الصبر، وهو: الصبرُ على الواجبات والمستحبات، والصبرُ عن المحرمات والمكروهات، بل يدخل في ذلك الصبر على البليات؛ فإن الصبر عليها - وعدم تسخطها، والرضى عن الله بها - من أعظم العبادات الداخلة في قوله: ﴿وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ﴾.

واشتملت على أن الله تعالى كامل الأسماء والصفات، عظيم النعوت جليل القدر، وليس له في ذلك شبيه ولا نظير ولا سَمِي، بل قد تفرد بالكمال المطلق من جميع الوجوه والاعتبارات، وهذا من أكبر الأدلة على أنه الذي لا تنبغي العبادة الظاهرة والباطنة - القلبية والبدنية والمالية - إلا لوجهه الكريم، خالصة مخلصة، كما خلص له الكمال والعظمة، والكبرياء والمجد والجلال.

ومنها: بطلان الشرك عقلاً ونقلاً، فكيف يليق بالعاقل أن يجعل المخلوقَ الناقصَ - الذي لا يملك لنفسه ولا لغيره نفعاً ولا ضراً ولا موتاً ولا حياة ولا نشوراً - نداً لمن لا كفء له ولا سمي، ولا مشابه بوجه من الوجوه؟! فهل هذا إلا من السفه والضلال، والجهل المفرِط، والضرر من كل الوجوه؟! ودلت على أن الشرك قد تقرر في العقل قبحه، وأن التوحيد قد تقرر في العقل حسنه؛ فكما لا سمي لله، فلا أحسن مِن عبادته وإخلاص العمل له، ولا أنفع للعبد من ذلك، ولا أصلح ولا أزكى.

ومن المتقرر شرعاً: أن الإحسان في عبادة الله تعالى - الذي هو سبب كل خيرٍ عاجلٍ وآجل، بل هو سبب لأعلى المراتب وأكمل الثواب - هو كما قال النبي r: «أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك»([وحدهم المشرفون لديهم صلاحيات معاينة هذا الرابط]) فكلما حقق العبدُ هذا الأمرَ كان له نصيبٌ وافرٌ من العبادة، بل هو أهم الأمور؛ ولهذا أمر النبيُ r معاذَ بن جبل أن يسأل الله تعالى أن يعينه على ذِكره وشُكره وحُسن عبادته، وهذا أمر يَقِل من الخلق من يحقق ويتصف به على وجه الكمال؛ لمشقة ذلك على النفوس، فإذا امتثل العبدُ لأمر ربه بالاصطبار، ولعبادته وحبْسِ النفسِ وتوطينِها على إحسان العبادة - خصوصاً أفضل العبادات وأعظمها وهي الصلاة؛ كما أمر الله بالاصطبار عليها خصوصاً فقال: ﴿وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا﴾[طه: 132] - استنار قلبه بالإيمان، وأشرق نور العرفان في ضميره، وذاق طعم الإيمان، وباشر حلاوته؛ فانجذب إلى عبادة الله وإخلاص العمل له، وعلم أن هذا هو الفلاح الدائم والربح المتضاعف، الذي لا خسارة فيه؛ فصبَّر نفسه قليلاً؛ ليستريح بأعظم اللذات طويلاً، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء، والله ذو الفضل العظيم.



ـ فصل ـ
قوله تعالى: ﴿كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ * إِلَّا أَصْحَابَ الْيَمِينِ﴾[المدثر: 38، 39] أي كل نفس مرتهنة محبوسة وموثقة بكسبها السيئ، وحبسها في العذاب السيئ؛ وذلك لأن الجزاء من جنس العمل، فكما حبس المجرمون ما لديهم لله ولخلقه من الحقوق اللازمة، فلم يؤدوا الصلاة التي هي أكبر العبادات المتضمنة للإخلاص للمعبود، ولا أطعموا المساكين من الحق الذي أوجبه الله لهم في أموالهم، ولا حبسوا نفوسهم على ما شرع، وقيدوها بقيود الدين، بل أطلقوها فيما شاءوا من المرادات الفاسدة، فخاضوا بالباطل مع الخائضين، ولا صدقوا ربهم ورسله مع تواتر الآيات، بل كانوا يكذبون بيوم الدين؛ فلذلك حبسوا في هذا المحبس الفظيع، وأُدخلوا في سقر، ولما كان أصحاب اليمين قد حبَسوا نفوسهم في الدنيا على شرع الله تصديقاً وعملاً، وأطلقوا ألسنتهم وجوارحهم في طاعة الله ومرضاته؛ أطلق الله إسارهم وفك رهنهم، فلم يكونوا في ذلك اليوم مرتهنين، بل كانوا مُطلَقين فيما اشتهت أنفسهم ولذت عيونهم. فعملُ العبد في الدنيا إما أن يكون سبباً لارتهانه أو سبباً لخلاصه، بل الأصل أن الإنسان في حبس، وأن عمله سيُرتهن؛ لأنه ظلوم وجهول طبعاً، إلا من خلصه الله من هذا، ومنّ عليه بالصبر وعمل الصالحات، فلهذا جعل الارتهان عامًّا، واستثنى منه أصحاب اليمين؛ فقال تعالى: ﴿كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ * إِلَّا أَصْحَابَ الْيَمِينِ﴾.

كلما ازداد العبد قرباً من الله - بالإيمان به، والتحقق بحقائقه، ومعرفته بالله، ومحبته والإنابة إليه وإخلاص العمل له - حصل له الخير والسرور، واندفعت عنه أنواع الشرور، وزالت عنه المخاوف، وسهلت عليه صعاب الأمور، وهذا هو المعنى الذي أراد الله بقوله لموسى: ﴿لَا تَخَفْ إِنِّي لَا يَخَافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ * إِلَّا مَنْ ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ حُسْنًا بَعْدَ سُوءٍ﴾[النمل:10، 11] ويدل على هذا قوله: ﴿لَا يَخَافُ لَدَيَّ﴾ ولم يقل: "لا يخاف مني" أي: لا خوف ينال من مننتُ عليه بأكمل الحالات وأشرف المراتب، وهي: الرسالة، ولكل مؤمن نصيب من هذا بحسب ما قام به من اتباع المرسلين، ويدل أيضاً أن المراد هذا المعنى العام الحسن الجليل: أن السياق والقرينة تدل عليه دلالة بينة؛ فإن الخوف الصادر من موسى إنما وقع لما رأى عصاه تهتز كأنها جان؛ فخاف حينئذٍ من تلك الحية بحسب الطبيعة البشرية، فأعلمه الله تعالى أن هذا محل القرب من الله، لا يليق ولا يكون فيه خوف، وإنما فيه الأمن التام؛ ولهذا قال في الآية الأخرى: ﴿أَقْبِلْ وَلَا تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ الْآمِنِينَ﴾[القصص: 31]، ويدل على هذا المعنى ما دل عليه الاستثناء في قوله: ﴿إِلَّا مَنْ ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ حُسْنًا بَعْدَ سُوءٍ فَإِنِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ فإن الاستثناء معيار العموم، والأصل أن يكون من جنس المستثنى منه، فالمعنى: ﴿الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ﴾ [الأنعام:82] فإن ظلموا أنفسهم ثم رجعوا إلى ربهم وبدلوا سيئاتهم حسنات رجعوا إلى مرتبتهم، وأزال عنهم الغفورُ الرحيمُ موجبَ الظلم والإساءة، والله أعلم.

فائدة: وهي في الحقيقة تابعة للإيراد السابق في إخبار الله: لا يهدي الظالمين والكافرين ونحوهم، مع أنه وقع منه هداية لمن اتصف بذلك الوصف، وجوابه السابق: وهو أن النفي واقع على من حق عليه أنه مجرم من أهل النار، وأن الهداية الحاصلة لمن لم يكن كذلك، ثم تبين لي في يومي هذا، وتوضح معنى ما زال مشكلاً عليّ، وضّحَه اللهُ وله الحمد، وهو حل هذه الآية الكريمة: ﴿وَإِذَا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنَا لَهُمْ دَابَّةً مِنَ الْأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ أَنَّ النَّاسَ كَانُوا بِآيَاتِنَا لَا يُوقِنُونَ﴾[النمل: 82] وأنها تقرير للآية التي قبلها فإن الله تعالى قال لرسوله مسلياً بعدم إيمان المعاندين، وأن هذا لا يضر الحق شيئاً: ﴿إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلَا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ * وَمَا أَنْتَ بِهَادِي الْعُمْيِ عَنْ ضَلَالَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا فَهُمْ مُسْلِمُونَ﴾[النمل:80، 81] فلما بين له أن اجتهاده صلى الله عليه وسلم في هداية الضالين إنما ينتفع به ويسمعه سمعَ قبولٍ وانقيادٍ مَن يؤمن بآياتنا فهم مسلمون، وأما الموتى الذين ليس في قلوبهم أدنى حياة لطلب الحق - فكما أن صوتَك لا تُسمع به الأموات موتاً حسياً - فصوتك أيضاً في الدعوة والإرشاد لا تُسمع به موتى القلوب، ولا الصم المعرضون المدبرون عن الحق، ولا الذين صار العمى لهم وصفاً، والغيُّ لهم نعتاً، فهؤلاء هم الذين ختم الله على قلوبهم وسمعهم وأبصارهم، وأولئك هم الغافلون، وهؤلاء هم الذين حق عليهم القول، وإذا حق القول على الأشقياء لم تنفعهم الآيات المسموعة والتذكير، كما لا تنفعهم الآيات التي يصير الإيمان عندها اضطرارياً، وهي الآيات الكبار، التي تكون مقدمة الساعة، فإنها إذا طلعت الشمسُ من مغربها لم ينفع نفساً إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيراً، حينئذٍ حق القول على الأشقياء أنهم لا يزالون على شقائهم، فيُخرج لهم دابة من الأرض تكلمهم، وتبيّن المسلم من الكافر، فالقول إذا حق لا يتغير ولا يتبدل، ويحصل اليأس من إيمان الكافرين ولو كانت الآيات أكبر الآيات، فالآية تقرر ما قبلها، وتدل على العلة الجامعة، وهي أن من حق عليه القول لو جاءته كل آية لم يؤمن حتى يرى العذاب الأليم، والله أعلم.
قوله تعالى: ﴿أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَمَاءُ بَنِي إِسْرَائِيلَ﴾[الشعراء: 197] تدل على أن أهل العلم بهم يُعرف الحق من الباطل، والحلالُ من الحرام، فهم الوسائل بين الله وبين عباده، ولهذا استشهد







[وحدهم المشرفون لديهم صلاحيات معاينة هذا الرابط]([1]) البخاري ح(50)، مسلم ح(8).
avatar
المدير
Admin
Admin

عدد المساهمات : 1934
نقاط : 16508
السٌّمعَة : 6
تاريخ التسجيل : 21/01/2011
العمر : 52

خاص للزوار
تردد1:
المواهب الربانية من الآيات القرآنية {من 38 إلى 44 صفحات} Left_bar_bleue100/0المواهب الربانية من الآيات القرآنية {من 38 إلى 44 صفحات} Empty_bar_bleue  (100/0)
أسألة الزوار:
المواهب الربانية من الآيات القرآنية {من 38 إلى 44 صفحات} Left_bar_bleue75/0المواهب الربانية من الآيات القرآنية {من 38 إلى 44 صفحات} Empty_bar_bleue  (75/0)
ddddddkkkkkkk:

https://alhorani.ahladalil.com

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

الرجوع الى أعلى الصفحة

- مواضيع مماثلة

 
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى