المواهب الربانية من الآيات القرآنية {من 59 إلى 71 صفحات}
صفحة 1 من اصل 1
المواهب الربانية من الآيات القرآنية {من 59 إلى 71 صفحات}
﴿وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ﴾[آل عمران: 44]، ﴿وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنَا إِلَى مُوسَى الْأَمْرَ﴾[القصص:44]، وما أشبه هذا مما فيه التبيان لصحة رسالة محمد صلى الله عليه وسلم حيث أخبر بهذه الغيوب، فتمام الإيمان بالغيب: أن يؤمن العبدُ بجميع رسل الله ويعرف من صفاتهم ومن دعوتهم ما يحقق به هذا الأمر.
وكذلك: يؤمن بجميع الكتب، خصوصاً هذا القرآن العظيم، الذي كلف العبد بالإيمان به إجمالاً وتفصيلاً.
وكيفية الإيمان على وجهِ الإجمالِ والتفصيل: أن يؤمن ويصدِّق بأنه كلامُ الله، أنزله مع جبريل عليه السلام على قلب محمد صلى الله عليه وسلم بهذا اللسان العربي؛ لينذر الخلق ويهدي إلى الحق في جميع المطالب، ويلتزم العبد التزاماً لا تردد فيه تصديقَ إخباراته كلِّها، وامتثال أوامره واجتناب نواهيه، وإحلال حلاله وتحريم حرامه، ثم يُحقق هذا الأصلَ بتفاصيله، فيتفهّم ما دلت عليه أخبارُه، ويجعلها عقيدة لقلبه راسخة، لا تزلزلها الشُبَه، ولا تُغيّرها العَوارض، ويجتهد في كل ما أُمِر به من أعمال القلوب والجوارح أن يقوم به على وجه الكمال والتكميل، علماً وعملاً وحالاً؛ وما لا يقدر عليه ينوي فعلَه لو قَدَر عليه. وكذلك النواهي: يأخذ نفسَه في كل ما نهي عنه أن لا يقربه ولا يحوم حوله؛ امتثالاً لأمر الله، ورجاء لثوابه، فبحسب قيام العبد بهذا يكون إيمانه بالغيب، فمستقلٌ ومستكثرٌ ومتوسطٌ، ويدخل في هذا النوع: الإيمان بأخباره بما كان من الأمور الماضية، وما يكون من الأمور المستقبلة.
ومن أنواع الإيمان بالغيب: الإيمان باليوم الآخر، وبما وعد اللهُ العبادَ من الجزاء، فدخل في هذا: الإيمانُ بجميع ما يكون بعد الموت من فتنة القبر وأحواله، ومِن صفات يوم القيامة وأهوالِه، ومن صفات النار وأهلها، وما أعد اللهُ لهم فيها، ومن صفات الجنة وأهلها، وما أعد الله فيها لأهلها، فيفهمها فهماً صحيحاً مأخوذاً من الكتاب ودلالته البينة، ومن السنة الصحيحة ودلالتها الظاهرة، فبحسب ما يصل إلى العبد من نصوص الكتاب والسنة في هذا الباب، وفهمها على وجهها؛ يكون إيمان العبد بالغيب.
وإذا استقر الإيمان بالوعد والوعيد في قلب العبد، وحصل فيه من ذلك تفاصيلُ كثيرة؛ أوجب له الرغبة في فعل ما يقرّبه إلى ثواب الله، والرهبة من الأسباب الموجبة للإهانة، وعلم أن الله تعالى قائمٌ على كل نفس بما عملت من خير وشر، وأنه واسع الفضل، كامل العدل، قال تعالى: ﴿جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدَ الرَّحْمَنُ عِبَادَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّهُ كَانَ وَعْدُهُ مَأْتِيًّا﴾[مريم:61]، ﴿وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا﴾[النساء: 122]، ﴿وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا﴾[النساء: 87 ]، ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ﴾[ آل عمران: 9].
ومن الإيمان بالغيب: الإيمان بالملائكة الكرام، الذين جعلهم الله عباداً مُكْرَمين، ﴿لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ﴾[الأنبياء: 28]، وأنهم ﴿لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ﴾[التحريم: 6]، ﴿يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لَا يَفْتُرُونَ﴾[الأنبياء: 20]، وأنه تعالى جعلهم يدبرون بأمره وإذنه أمورَ الدنيا والآخرة، فهم أكثرُ جنود الله، وهم رسله في أحكامه الدينية وأحكامه القدرية، وأن الله جعل للعبد منهم مُعَقِّباتٍ يحفظونه من أمر الله، ويحفظون عليه أعماله: ﴿مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ﴾[ق: 18]، ﴿كَلَّا بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ * وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ * كِرَامًا كَاتِبِينَ * يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ﴾[الانفطار: 9 - 12] ولهم صفاتٌ وأفعالٌ مذكورة في الكتاب والسنة لا يتم الإيمانُ بالغيب إلا بالإيمان بها؛ فرجع الإيمان بالغيب إلى أصول الإيمان الستة بالإيمان بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، والقدر خيره وشره، على هذا الوجه الذي ذكرنا، والأصل الذي نبهنا أدنى تنبيه عليه، فمن حقق الإيمان بذلك كله كان من المؤمنين بالغيب حقيقة، المتقين المفلحين.
[size=12]16. فائدة: ما هو الخشوع الذي أمر الله به، ومدح أهلَه وذم من قسا قلبه فلم يخشع، فما حقيقة ذلك؟ وما علامته ودلالته؟ قلت: قد مدح الله الخشوع عموماً في جميع الأوقات والحالات والعبادات، مثل قوله تعالى: ﴿وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ﴾[الأحزاب: 35]، ﴿أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ﴾[الحديد: 16]، ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَخْبَتُوا إِلَى رَبِّهِمْ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾[هود: 23]، ومدح الخشوع خصوصاً في الصلاة، مثل قوله: ﴿الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ﴾[المؤمنون: 2] فخشوعُ القلب عنوانُ الإيمان وعلامة السعادة، كما أن قسوتَه وعدمَ خشوعه عنوانُ الشقاوة؛ فالخشوع انكسار القلب وذله بين يدي ربه، وأن يبقى هذا الخشوع مستصحباً مع العبد في جميع أوقاته، إن غفل رجع إليه، وإن مرح عاد إليه، وإن شرع في تعبد وقربة من القربات خضع فيها، وقام بالأدب الذي هو أثر الخشوع، خصوصاً في أم العبادات، والجامعة بين أنواع التعبدات القلبية والبدنية وأقوال اللسان وهي: الصلاة؛ فإنه يقوم فيها مراعياً للمراقبة، ومرتبة الإحسان أن يعبد الله كأنه يراه، فإن لم يره فإنه يراه، فيُجهد نفسَه على التحقيق بهذه العبودية الكاملة، فيُحضر قلبَه فيناجي ربه بقلبه قبل لسانه، ويستحضر ما يقوله ويفعله؛ فتسكن حركاته ويقل عبثه، ولهذا لما رأى النبي صلى الله عليه وسلم رجلاً يصلي وهو يعبث في لحيته فقال: «لو خشع قلب هذا لخشعت جوارحه»([وحدهم المشرفون لديهم صلاحيات معاينة هذا الرابط]) وبهذا يُعرف أن من أعظم علامات الخشوعِ سكونُ الجوارح، والتأدب في الخدمة الذي هو أثر سكون القلب، ولهذا وصف الله عباده الذين أضافهم إلى رحمته في قوله: ﴿وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا﴾[الفرقان: 63] المراد: خاضعين متواضعين، ومن أمارات هذا الخشوع أن يطمئن القلب بذكر الله، ويخشع ويخضع للحق الذي أنزله الله؛ فيعتقد ما دل عليه من الحق، ويرغب فيما دعا إليه من الخير، ويرهب عما حذر منه من الشر، كما قال تعالى: ﴿الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ﴾[الرعد: 28]، وقال تعالى: ﴿أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ﴾[الحديد: 16]، وقال تعالى: ﴿فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ * اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ﴾[الزمر: 22، 23] فالقلب القاسي لا تؤثر فيه الآيات شيئاً، ولا يزداد مع التذكير إلا تمادياً في غيّه وطغيانه وضلاله، والقلب الخاشع - لما كان حسن القصد متواطئاً على الحق طالباً له مستعداً لقبوله - لما وصل إليه الحق عرفه، وعرف الحاجة بل الضرورة إليه ففرح به واطمأن به، وزادت رغبتُه وأثّر في قلبه خضوعاً، وفي عينيه دموعاً، وفي جلده قشعريرة، ثم يلين قلبه ويطمئن إلى ذكر الله تعالى؛ فهذا من هداية الله لعبده وتوفيقه إياه، إلا مَن أعرضوا فأعرض الله عنهم، وقال تعالى: ﴿وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمًّا وَعُمْيَانًا﴾[الفرقان: 73] أي بل خروا سامعين مبصرين، منقادين لها طوعاً واختياراً، وقال تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ سُجَّدًا * وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولًا * وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا﴾[الإسراء: 107 - 109] فهذا تأثير آيات الله في أهل العلم الخاشعين، يجمعون بين خشوع القلب وخضوع اللسان وتضرعه، وخضوع الجوارح حيث خروا للأذقان يبكون، وقال تعالى بعدما ذكر أصفياءه الخاضعين: ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْرَائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا﴾[مريم: 58].
ومِن أعظم علامات الخاشعين: ما ذكر اللهُ بقوله ﴿وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ﴾ ثم وصفهم فقال: ﴿الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَالصَّابِرِينَ عَلَى مَا أَصَابَهُمْ وَالْمُقِيمِي الصَّلَاةِ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ﴾[الحج: 34-35] فلما أخبتت قلوبهم إلى ربهم - فذلّت له وانكسرت وتبتّلت إليه تبتيلاً - وجِلَتْ عند ذكره، وصبرتْ على ما أصابها مِن ابتلاء الله، وأدَّتْ ما أُمِرتْ به من الصلاة وأنواع النفقات؛ فجمع بين وصف المخبتين، وبين أعمال القلوب - وهو الصبر والوجل - وأعمال الجوارح كلها، وأقوال اللسان - وهو الصلاة التي تجتمع فيها أنواع التعبد- والأعمال المالية، وتقديم محبة الله على محبة المال، فأخرَجتِ المالَ المحبوبَ للنفوس في الوجوه التي يحبها الله تعالى؛ إيثاراً لربها، فهذه أوصاف المخبت الخاشع، التي لا يستحق هذا الاسم من لم يتصف بها.
وكذلك: وصفهم بأنهم الذين يعرفون الحق في مواضع الشُبَه؛ فيزدادون إيماناً إلى إيمانهم، كما قال تعالى: ﴿وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ اللَّهَ لَهَادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾[الحج: 54]، وقوله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَخْبَتُوا إِلَى رَبِّهِمْ﴾[هود: 23] يتضمن وصفَ المخبتين الخاشعين بالرجوعِ إلى ربهم في جميع الحالات، والإنابة إليه في كل الأوقات؛ لأن تَعدية الفعل بـ(إلى) يدل على هذا المعنى، فإنهم لما أخبتوا إلى ربهم، وخضعوا لعظمته؛ أخبتوا إليه في التعبد متذللين فتقبّل منهم، وأوصلهم إلى مقصودهم، وجعلهم أصحابَ الجنة خالدين فيها، فلما خشعت قلوبُهم؛ خشعت أسماعُهم وأبصارُهم وألسنتُهم وجوارحُهم للرحمن.
ومما يدل على أن هذه الأشياء تابعة للقلب في خشوعه: ما تقدم من قوله صلى الله عليه وسلم: «لو خشع قلب هذا لخشعت جوارحه»([وحدهم المشرفون لديهم صلاحيات معاينة هذا الرابط])، وقوله تعالى: ﴿وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ﴾[طه:111]، ﴿وَخَشَعَتِ الْأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ﴾[طه: 108]، ولهذا فسّر كثيرٌ من المفسرين: ﴿الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ﴾[المؤمنون: 2] أنه غض البصر، وقلة الحركات، وعدم الالتفات، ولا شك أن هذا أثرُ الخشوع ودليلُه، فالخاشع: هو الذي سكن في قلبه تعظيمُ الله ووقارُه، وتصديقُ وعده ووعيده؛ فذلَّ وخضع، وانقادت جوارحه لما أُمرتْ به، وترك الأشرَ والبطرَ والمرحَ المنافي للخشوع، وكلما بعُد القلبُ عن هذا الوصف قسا وغلظ؛ فلم يخضع لأمر الله، ولا أثَّر فيه الذكر، بل ربما زاد خساراً، وافتتن عند المحن والشبهات، وفسق عن أمرِ ربه.
17. يا لطيفاً بالعباد، لطيفاً لما يشاء؛ الطف بنا في جميع الأمور، ما معنى: لطف اللهُ بعبده، ولطفه لعبده الذي تتعلق به آمال العباد، ويسألونه من ربهم؟ وهو أحد معنيي مقتضى اسمه اللطيف؛ فإن اللطيف بمعنى الخبير العليم قد تقرر معناه، ولكن المطلوب هنا المعنى الثاني، الذي يضطر إليه العباد، ولنذكر بعض أمثلته وأنواعه؛ ليتضح: فاعلم أن اللطف الذي يطلبه العباد من الله بلسان المقال ولسان الحال هو من الرحمة، بل هو رحمة خاصة؛ فالرحمة التي تصل العبد من حيث لا يشعر بها أو لا يشعر بأسبابها هي اللطف، فإذا قال العبد: يا لطيف الطف بي أولي وأسألك لطفك؛ فمعناه: تولني ولاية خاصة، بها تصلح أحوالي الظاهرة والباطنة، وبها تندفع عني جميع المكروهات: من الأمور الداخلية والأمور الخارجية، فالأمور الداخلية لطف بالعبد والأمور الخارجية لطف للعبد، فإذا يسر الله عبده وسهل طريق الخير وأعانه عليه فقد لطف به، وإذا قيض الله له أسباباً خارجية غير داخلة تحت قدرة العبد، فيها صلاحه فقد لطف له. ولهذا لما تنقلت بيوسف عليه الصلاة والسلام تلك الأحوال، وتطورت به الأطوار من رؤياه وحسد إخوته له وسعيهم في إبعاده جداً، واختصاصهم بأبيهم، ثم محنته بالنسوة، ثم بالسجن، ثم بالخروج منه بسبب رؤيا الملك العظيمة وانفراده بتعبيرها، وتبوئه من الأرض حيث يشاء، وحصول ما حصل على أبيه من الابتلاء والامتحان، ثم حصل بعد ذلك الاجتماع السار، وإزالة الأكدار وصلاح حالة الجميع، والاجتباء العظيم ليوسف - عرف عليه الصلاة والسلام أن هذه الأشياء وغيرها لطفٌ لطف الله لهم به، فاعترف بهذه النعمة فقال: ﴿إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِمَا يَشَاءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ﴾[يوسف: 100] أي: لطفه تعالى خاص لمن يشاء من عباده ممن يعلمه تعالى محلاً لذلك، وأهلا له، فلا يضعه إلا في محله، والله أعلم حيث يضع فضله، فإذا رأيت الله تعالى قد يسر العبد لليسرى وسهل له طريق الخير، وذلل له صعابه وفتح له أبوابه ونهج له طرقه ومهد له أسبابه وجنبه العسرى فقد لطف به، ومن لطفه بعباده المؤمنين أنه يتولاهم بلطفه فيخرجهم من الظلمات إلى النور، من ظلمات الجهل والكفر والبدع والمعاصي إلى نور العلم والإيمان والطاعة.
ومِن لطفه: أنه يرحمهم مِن طاعة أنفسهم الأمارة بالسوء، التي هذا طبعها وديدنها؛ فيوفقهم لنهي النفس عن الهوى، ويصرف عنهم السوءَ والفحشاءَ، فتوجد أسبابُ الفتنة، وجواذبُ المعاصي، وشهواتُ الغَي؛ فيرسل اللهُ عليها برهانَ لطفه، ونورَ إيمانهم الذي مَنّ به عليهم؛ فيَدَعونها مطمئنين لذلك، منشرحة لتركها صدورُهم.
ومِن لطفه بعباده: أنه يُقدّر أرزاقَهم بحسب علمه بمصلحتهم لا بحسب مراداتهم، فقد يريدون شيئاً وغيرُه أصلح؛ فيقدر لهم الأصلح وإن كرهوه؛ لطفاً بهم وبراً وإحساناً ﴿اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ﴾[الشورى: 19]، ﴿وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ وَلَكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ﴾[الشورى: 27].
ومِن لطفه بهم: أنه يُقدّر عليهم أنواع المصائب، وضروب المحن والابتلاء بالأمر والنهي الشاق؛ رحمة بهم ولطفاً، وسوقاً إلى كمالِهم وكمالِ نعيمهم: ﴿وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ﴾[البقرة: 216].
ومن لطيف لطفه بعبده إذ أهّلَه للمراتب العالية، والمنازل السامية - التي لا تُدرَك إلا بالأسباب العِظام التي لا يدركها إلا أربابُ الهممِ العالية، والعزائمِ السامية - أن يُقدِّر له في ابتداء أمره بعضَ الأسباب المحتملة المناسبة للأسباب التي أُهِّل لها؛ ليتدرج من الأدنى إلى الأعلى، ولتتمرن نفسُه، ويصير له ملكة من جنس ذلك الأمر، وهذا كما قَدَّر لموسى ومحمدٍ وغيرِهما من الأنبياء - صلوات الله وسلامه عليهم - في ابتداء أمرهم رعايةَ الغنم؛ ليتدرجوا من رعاية الحيوان البهيم وإصلاحه إلى رعاية بني آدم ودعوتهم وإصلاحهم.
وكذلك يذيق عبدَه حلاوة بعض الطاعات؛ فينجذب ويرغب، ويصير له ملكة قوية بعد ذلك على طاعات أجلّ منها وأعلى، ولم تكن تحصل بتلك الإرادة السابقة، حتى وصل إلى هذه الإرادة والرغبة التامة.
ومِن لطفه بعبده: أن يُقدّر له أن يتربى في ولاية أهل الصلاح والعلم والإيمان، وبين أهل الخير؛ ليكتسب مِن أدبهم وتأديبهم، ولينشأ على صلاحهم وإصلاحهم، كما امتن الله على مريم في قوله تعالى: ﴿فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا﴾[آل عمران: 37] إلى آخر قصتها.
ومن ذلك: إذا نشأ بين أبوين صالحين، وأقارب أتقياء، أو في بلد صلاح، أو وفّقه الله لمقارنة أهل الخير وصحبتهم، أو لتربية العلماء الربانيين؛ فإن هذا مِن أعظم لطفه بعبده، فإن صلاح العبد موقوف على أسباب كثيرة: منها، بل من أكثرها وأعظمها نفعا، هذه الحالة، ومن ذلك إذا نشأ العبد في بلد أهله على مذهب أهل السنة والجماعة فإن هذا لطف له.
وكذلك: إذا قدر الله أن يكون مشايخه الذين يستفيد منهم - الأحياء منهم والأموات - أهل سنةٍ وتقى؛ فإن هذا من اللطف الرباني، ولا يخفى لطف الباري في وجود شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله - في أثناء قرون هذه الأمة - وتبيين الله به وبتلامذته مِن الخير الكثير، والعلم الغزير، وجهاد أهل البدع والتعطيل والكفر، ثم انتشار كتبه في هذه الأوقات، فلا شك أن هذا مِن لطف الله لمن انتفع بها، وأنه يتوقف خيرٌ كثيرٌ على وجودها، فلله الحمد والمنة والفضل.
ومِن لطف الله بعبده: أن يجعل رزقه حلالاً في راحة وقناعة، يحصل به المقصود ولا يشغله عما خلق له من العبادة والعلم والعمل، بل يُعينه على ذلك ويفرّغه، ويريح خاطرَه وأعضاءَه، ولهذا من لطف الله تعالى لعبده أنه ربما طمحت نفسُه لسببٍ من الأسباب الدنيوية التي يَظن فيها إدراكَ بغيتِه، فيعلم اللهُ تعالى أنها تضره وتصدّه عما ينفعه؛ فيحول بينَه وبينها، فيظل العبدُ كارهاً ولم يدر أن ربه قد لطف به: حيث أبقى له الأمر النافع: وصرف عنه الأمر الضار، ولهذا كان الرضى بالقضاء في مثل هذه الأشياء من أعلى المنازل.
ومن لطف الله بعبده - إذا قدر له طاعة جليلة لا تُنال إلا بأعوان -: أن يقدر له أعواناً عليها ومساعدين على حملها، قال موسى عليه السلام: ﴿وَاجْعَلْ لِي وَزِيرًا مِنْ أَهْلِي * هَارُونَ أَخِي * اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي * وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي * كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيرًا﴾[طه: 29 - 34]، وكذلك امتن على عيسى بقوله: ﴿وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي قَالُوا آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ﴾[المائدة: 111]، وامتن على سيد الخلق في قوله: ﴿هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ﴾[الأنفال:62]، وهذا لطفٌ لعبده خارجٌ عن قدرته.
ومن هذا لطف الله بالهادين: إذا قيّض اللهُ من يهتدي بهداهم، ويقبل إرشادهم؛ فتتضاعف بذلك الخيراتُ والأجورُ التي لا يدركها العبد بمجرد فعله، بل هي مشروطة بأمر خارجي.
ومن لطف الله بعبده: أن يعطي عبدَه - من الأولاد والأموال والأزواج - ما به تقرّ عينُه في الدنيا، ويحصل له به السرور، ثم يبتليه ببعض ذلك، ويأخذه ويعوضه عليه الأجر العظيم إذا صبر واحتسب، فنعمةُ الله عليه بأخذه على هذا الوجه أعظمُ من نِعمتِه عليه في وجوده، وقضاء مجرد وطَرِه الدنيوي منه. وهذا أيضاً خيرٌ وأجرٌ خارجٌ عن أحوال العبد بنفسه، بل هو لطف من الله له، قيّض له أسباباً أعاضه عليها الثواب الجزيل، والأجر الجميل.
ومن لطف الله بعبده: أن يبتليه ببعضِ المصائب، فيوفقه للقيام بوظيفة الصبر فيها؛ فيُنيلُه درجاتٍ عالية لا يدركها بعمله، وقد يُشدِّد عليه الابتلاء بذلك، كما فُعِل بأيوب عليه السلام، ويوجِد في قلبه حلاوة روح الرجاء، وتأميلَ الرحمة، وكشفَ الضر، فيُخفف ألمُه، وتنشط نفسُه، ولهذا من لطف الله بالمؤمنين: أن جعل في قلوبهم احتساب الأجر؛ فخفّت مصائبهم، وهان ما يلقون من المشاق في حصول مرضاته.
ومن لطف الله بعبده المؤمن الضعيف: أن يعافيه من أسباب الابتلاء التي تضعف إيمانَه، وتُنقص إيقانه، كما أن من لطفه بالمؤمن القوي: تهيئةَ أسباب الابتلاء والامتحان ويعينه عليها، ويحمِلها عنه ويزداد بذلك إيمانُه، ويعظم أجرُه، فسبحان اللطيف في ابتلائه وعافيته، وعطائه ومنعه.
ومن لطف الله بعبده: أن يسعى لكمال نفسه مع أقرب طريق يوصله إلى ذلك، مع وجود غيرها من الطرق التي تبعد عليه، فيُيَسّر عليه التعلُّم مِن كتابٍ أو معلمٍ يكون حصول المقصود به أقرب وأسهل، وكذلك ييسره لعبادة يفعلها بحالة اليسر والسهولة، وعدم التعويق عن غيرها مما ينفعه، فهذا من اللطف.
ومن لطف الله بعبده: قدر الواردات الكثيرة، والأشغال المتنوعة، والتدبيرات والتعلقات الداخلة والخارجة، التي لو قُسِّمت على أمةٍ من الناس لعجزت قواهم عليها، أن يمن عليه بخُلُقٍ واسع، وصدرٍ متسع، وقلبٍ منشرح، بحيث يُعطي كلَّ فردٍ من أفرادها نظراً ثاقباً، وتدبيراً تاماً، وهو غير مكترث ولا منزعج لكثرتها وتفاوتها، بل قد أعانه الله تعالى عليها، ولطَفَ به فيها، ولطَفَ له في تسهيل أسبابها وطرقها.
وإذا أردتَ أن تعرف هذا الأمر فانظر إلى حالة المصطفى صلى الله عليه وسلم، الذي بعثه الله بصلاح الدارين، وحصول السعادتين، وبعثه مُكملاً لنفسه ومُكملاً لأمة عظيمة هي خير الأمم، ومع هذا مكّنه اللهُ ببعض عمره الشريف في نحو ثلث عمره أن يقوم بأمر الله كله على كثرته وتنوعه، وأن يقيم لأمته جميعَ دينهم، ويعلمهم جميع أصوله وفروعه، ويُخرج اللهُ به أمةً كبيرة مِن الظلمات إلى النور، ويحصل به من المصالح والمنافع، والخير والسعادة - للخاص والعام - ما لا تقوم به أمّةٌ مِن الخَلق.
ومن لطف الله تعالى بعبده: أن يجعل ما يبتليه به من المعاصي سبباً لرحمته، فيفتح له عند وقوع ذلك بابَ التوبة والتضرع، والابتهال إلى ربه، وازدراء نفسه واحتقارها، وزوال العُجب والكبر من قلبه ما هو خيرٌ له من كثيرٍ من الطاعات.
ومن لطفه بعبده الحبيب عنده: إذا مالت نفسُه مع شهوات النفس الضارة، واسترسلت في ذلك؛ أن يُنَغِّصها عليه ويكدرها، فلا يكاد يتناول منها شيئاً إلا مقروناً بالمكدرات، محشواً بالغصص؛ لئلا يميل معها كل المَيل، كما أن مِن لطفه به أن يُلذِّذ له التقربات، ويحلي له الطاعات؛ ليميل إليها كل المَيل.
ومن لطيف لطف الله بعبده: أن يأجُرَه على أعمالٍ لم يعملها بل عزم عليها، فيعزم على قُربةٍ من القُرَب ثم تنحل عزيمته لسبب من الأسباب فلا يفعلها، فيحصل له أجرها، فانظر كيف لطف الله به! فأوقعها في قلبه، وأدارها في ضميره، وقد علم تعالى أنه لا يفعلها؛ سَوقاً لبِره لعبده وإحسانه بكل طريق. وألطف من ذلك: أن يقيض لعبده طاعةً أخرى غير التي عزم عليها، هي أنفع له منها؛ فيدع العبدُ الطاعةَ التي تُرضي ربَّه لطاعة أخرى هي أرضى لله منها، فتحصل له المفعولة بالفعل والمعزوم عليها بالنية، وإذا كان من يهاجر إلى الله ورسوله، ثم يُدركه الموتُ قبل حصول مقصوده قد وقع أجره على الله - مع أن قطع الموت بغير اختياره - فكيف بمن قَطَعت عليه نيتَه الفاضلة طاعةٌ قد عزم على فعلها؟! وربما أدار اللهُ في ضمير عبده عِدَّة طاعات، كل طاعة لو انفردت لفعلها العبد؛ لكمال رغبته، ولا يمكن فعلُ شيءٍ منها إلا بتفويت الأخرى، فيوَفِّقه للموازنة بينها، وإيثار أفضلها فعلاً مع رجاء حصولها جميعها عزماً ونية.
وألطف من هذا: أن يُقدِّر تعالى لعبده ويبتليه بوجود أسباب المعصية، ويُوفِّر له دواعيها، وهو تعالى يعلم أنه لا يفعلها؛ ليكون تركه لتلك المعصية التي توفَّرت أسبابُ فعلها مِن أكبر الطاعات، كما لطف بيوسف عليه السلام في مراودة المرأة، وأحدُ السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله: رجلٌ دعته امرأة ذات منصب وجمال فقال: إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ.
ومن لطف الله بعبده: أن يُقدِّر خيراً وإحساناً مِن عبده، ويُجرِيَه على يد عبده الآخر، ويجعله طريقاً إلى وصوله للمستحق، فيثيب اللهُ الأولَ والآخِرَ.
ومن لطف الله بعبده: أن يُجرِي بشيءٍ مِن مالِه شيئاً من المنافع وخيراً لغيره؛ فيثيبه من حيث لا يحتسب، فمن غرس غرساًَ، أو زرع زرعاً فأصابت منه روحٌ من الأرواحِ المحترمة شيئاً آجرَ اللهُ صاحبَه وهو لا يدري! خصوصاً إذا كانت عنده نيةٌ حسنة، وعَقَدَ مع ربه عقْداً في أنه مهما تَرتّب على ماله شيءٌ من النفع، فأسألك يا رب أن تأجرني، وتجعله قربةً لي عندك، وكذلك لو كان له بهائم انْتُفع بدَرِّها ورُكُوبها والحَمْل عليها، أو مساكن انْتُفع بسكناها ولو شيئاً قليلاً، أو ماعونٍ ونحوه انْتُفع به، أو عينٍ شُربَ منها، وغير ذلك - ككتابٍ انْتُفع به في تعلم شيء منه، أو مصحفٍ قُرئ فيه - والله ذو الفضل العظيم.
ومن لطف الله بعبده: أن يفتح له باباً من أبواب الخير لم يكن له على بال، وليس ذلك لقلة رغبته فيه، وإنما هو غفلة منه، وذهول عن ذلك الطريق، فلم يشعر إلا وقد وجد في قلبه الداعي إليه، واللافت إليه؛ ففرح بذلك، وعرف أنها من ألطاف سيِّدِه وطُرُقه التي قيّض وصولهَا إليه؛ فصرف لها ضميرَه، ووجّه إليها فِكره، وأدرك منها ما شاء الله وفتح.
18. قوله تعالى: ﴿لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ﴾[المائدة: 93] تأملتُ في فائدة تكرار التقوى في هذه الآية ثلاثَ مراتٍ؛ فوقع لي أحدُ وجهين:
أحدهما: أن الأول للماضي، والثاني للحال، والثالث في المستقبل، وبيان ذلك: أن قوله تعالى: ﴿لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا﴾ أن (جناح) نكرة في سياق النفي؛ فتعم الماضي والمستقبل والحال، لأنه نفى الجناحَ عن المؤمنين مطلقاً، وهذا النفي العام لا ينطبق إلا على الأحوال الثلاثة، ويكون هذا التكرار من محترزات القرآن، التي يحترز الباري فيها عن كل حالٍ تُقَدّر وتُمْكِن؛ لأنهم لو اتقوا في الماضي أو في الحال أو فيهما دون المستقبل لم يَصدُق عليهم نفي الجناح، ولا بد في كل حالة من الأحوال التي تُقام فيها التقوى مِن الإيمان والعمل الصالح، ومن الإيمان والإحسان؛ يُؤيِّدُ هذا الاحتمال قولُه: ﴿فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى وَاتَّقُوا اللَّهَ﴾[البقرة: 203]، فإن قوله: ﴿فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ﴾ نظيرُ قولِه (جناح) ولما كانت هذه الآية لا يُتَصور فيها الماضي كما هو بيّن - لأنه شرط وجزاء للمستقبل، ويصلح للحال - قال: ﴿فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ﴾ يعني في الحال، لمن اتقى اللهَ فيها، ثم ذكر ما يصلح للمستقبل فقال: ﴿وَاتَّقُوا اللَّهَ﴾ فإذا قُرِنت هذه بتلك بانت لك فائدةُ التكرار، وأن ذلك لأجل عموم الأزمنة.
الوجه الثاني: أن الأول في مقام الإسلام، والثاني في مقام الإيمان، والثالث في مقام الإحسان: والمؤمن لا تكمل تقواه حتى يترك ما حرم اللهُ، ولا يتمَّ دينُه إلا بهذه المقامات الثلاثة؛ لأن مقام الإسلام يقتضي وجود الأعمال الظاهرة مع الإيمان والتقوى، فقال فيها: ﴿إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ﴾ ومقام الإيمان لا بد فيه من القيام بأركان الإيمان مع التقوى، فقال فيه: ﴿ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا﴾ ومقام الإحسان لا بد فيه من القيام بالإحسان مع التقوى، فقال فيه: ﴿ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا﴾ فنفي الجناح العام لا يكون إلا لمن قام بمقاماتِ الدِّين كلِّها؛ وعلى هذين الوجهين ففي الآية الكريمة من بيان جلالة القرآن وعظمته - وإحكام معانيه ورصانتها، وعدم اختلالها واختلافها - ما يشهد به العبدُ أنه كلامُ الله حقاً وصدقاً وعدلاً، وأنه مُحتوٍ على أعلى رُتَبِ البلاغة التي لا يقاربه فيها أيُّ كلام كان، وقد يُقال: إن كلا الوجهين مراد؛ لأن اللفظ لا يأباه، والمعنى مفتقر إليه، وطريقة القرآن أن يُحمَل على أعمّ الوجوه المناسبة؛ لأنه تنزيل من حكيم حميد، عليم بكل شيء، والله أعلم بمراده وأسرار كتابه، اللهم ذكّرنا منه ما نُسِّينا، وعلِّمنا منه ما جهلنا، واجعلنا ممن يتلونه حق تلاوته.
19. أقول: ولما ختم المؤلف رحمه الله كلامه على معنى اللطيف قال: وأرجو من الله أن يكون ما نحن فيه من هذا النوع؛ فإن جنس هذه الفوائد المذكورة في هذه الرسالة قد كانت تعرض لي كثيراً أثناء القراءة لكتاب الله، فأتهاون بها ولم أقيدها، فيضيع شيء كثير، فلما كان أول يوم من هذا الشهر المبارك أوقع في قلبي أن أقيد ما يمر عليّ من الفوائد والمعاني المتضحة، التي لا أعلم أنها وقعت لي قبل ذلك، فعملتُ على هذا النمط، حتى كان الانتهاء إلى لطف الله، كما كان الابتداء بلطف الله بهذه الرسالة اللطيفة! وكان ذلك موافقاً للثامن والعشرين من هذا الشهر المبارك، الذي حصل به الابتداء في 28 من شهر رمضان سنة 1347 سبع وأربعين وثلاثمائة وألف من الهجرة، والحمد لله أولاً وآخراً وظاهراً وباطناً، حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه، وصلى الله على محمد وسلم، وقد تمت هذه الرسالة على يد جامعها الفقير إلى ربه من كافة الوجوه: عبد الرحمن بن ناصر بن عبد الله بن سعدي.([وحدهم المشرفون لديهم صلاحيات معاينة هذا الرابط])
فهرس الآيات
الموضوع | الصفحة |
﴿اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ...﴾[الفاتحة: 6، 7]. | 26 |
﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا...﴾[البقرة: 26]. | 51 |
﴿وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً...﴾[البقرة: 67]. | 7 |
﴿وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا...﴾[البقرة: 72]. | 7 |
﴿فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا﴾[البقرة: 73]. | 7 |
﴿رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ...﴾[البقرة: 127، 128]. | 30 |
﴿إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ﴾[البقرة: 143]. | 57 |
﴿أَوْ عَلَى سَفَرٍ﴾[البقرة: 184]. | 1 |
﴿فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ﴾[البقرة: 184]. | 1 |
﴿يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ﴾[البقرة: 185]. | 1 |
﴿وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ﴾[البقرة: 201]. | 26 |
﴿رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً﴾[البقرة: 201]. | 32 |
﴿وَع مواضيع مماثلة » المواهب الربانية من الآيات القرآنية {من 8 إلى 13 صفحات} » المواهب الربانية من الآيات القرآنية {من 13 إلى 18 صفحات} » المواهب الربانية من الآيات القرآنية {من 18 إلى 25 صفحات} » المواهب الربانية من الآيات القرآنية {من 25 إلى 31 صفحات} » المواهب الربانية من الآيات القرآنية {من 31 إلى 38 صفحات} صفحة 1 من اصل 1 صلاحيات هذا المنتدى: لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدىLike/Tweet/+1 بحـث سحابة الكلمات الدلالية احصائيات هذا المنتدى يتوفر على 176 عُضو.آخر عُضو مُسجل هو imafovab فمرحباً به. أعضاؤنا قدموا 3837 مساهمة في هذا المنتدى في 3572 موضوع المتواجدون الآن ؟ ككل هناك 366 عُضو متصل حالياً :: 0 عضو مُسجل, 0 عُضو مُختفي و 366 زائر لا أحد أكبر عدد للأعضاء المتواجدين في هذا المنتدى في نفس الوقت كان 366 بتاريخ الجمعة نوفمبر 22, 2024 3:40 pm أفضل 10 أعضاء في هذا الأسبوع
تسجيل صفحاتك المفضلة في مواقع خارجية قم بحفض و مشاطرة الرابط منتدى تيسير الحوراني على موقع حفض الصفحات قم بحفض و مشاطرة الرابط على موقع حفض الصفحات المواضيع الأكثر نشاطاً |